Strong>شخصيّات من لحم ودم بين خيبة وأخرىالفنّ بالنسبة إلى صاحب «أسرار وأكاذيب» هو المرآة التي تعكس الواقع. ولعلّ الانشغال برصد الجوانب الإنسانية والاجتماعية، برهافة موجعة غالباً، جعل من المعلّم البريطاني أحد أشهر مخرجي الواقعيّة في أوروبا اليوم. «عام آخر» جديده القريب من المسرح في مناخاته وبنيته الدراميّة، يحكي الحبّ والفشل والعمر الهارب

زياد عبد الله
يريد السينمائي البريطاني مايك لي (1943) أن يصنع أفلاماً تشبه الحياة، لا يحب أن يخرج مشاهده من صالة السينما ويقع على عالم مغاير تماماً لما قدّمه الفيلم. حين كان في الثانية عشرة في مانشستر، لم يكن قد أتيح له إلا مشاهدة أفلام أميركية وإنكليزية من خمسينيات القرن الماضي. لندن ستفتح أمامه بوابات السينما العالمية، ليجد سنده في الواقعية الإيطالية الجديدة، ويقع في غرام الإيطالي فيتوريو دي سيكا، ويدهشه الهندي ساتياجيت راي.
جديده Another Year (عام آخر) الذي حملته الدورة الأخيرة من «مهرجان كان السينمائي» لن يفارق الشخصيات التي خلقها على مدى مسيرته السينمائية الطويلة، وكانت رهانه الأكبر. وقد كان رهاناً ناجحاً حين جعلها شخصيات لا تنسى، بينما كانت الجوائز دوماً من نصيب مجسّديها من الممثلين. لنستعِد معاً جوني الهارب من مانشستر إلى لندن في فيلم «عاري» الذي نال جائزة أفضل مخرج، وأفضل ممثّل لديفيد ثوليس في «مهرجان كان 1993»... أو فيلم «فيرا دريك» (جائزة الأسد الذهبي في «مهرجان البندقية» 2004 وجائزة أفضل ممثلة لإميلدا ستانتون)، حيث تلك المرأة الطيبة بعد الحرب العالمية الثانية التي تفعل كل شيء لإسعاد عائلتها والآخرين، إلى درجة تورطها في فعل تجده خيّراً، وهو «مساعدة الشابات» على الإجهاض من دون مقابل مادي، وتمسي مأساتها في طيبتها، ما يعيدنا أيضاً إلى أشهر أفلامه «أسرار وأكاذيب» (سعفة «كان» الذهبية 1996) حيث روز (برندا بليثن نالت جائزة أفضل ممثلة في «كان») التي تعثر عليها ابنتها بعدما تخلت عنها منذ أكثر من ثلاثين سنة... فإذا بها امرأة زنجية، بينما روز لم تكن قد قابلت زنجياً أو زنجية في حياتها.
الحوار يمثّل إحدى الأدوات الرئيسة في عالم المخرج البريطاني
حقّق لي معظم أفلامه من دون سيناريو مكتوب. لدى التصوير يتبع مجموعة تصورات وأحداث يعمل على تطويرها مع الممثلين عبر إحاطتهم بمناخ الفيلم. ويؤسس لبيئة توظّف ردود فعل الممثلين وتصرفاتهم، وفق إملاءات الشخصية التي يعيشونها، وذلك من خلال فترات تحضير طويلة سابقة للتصوير. والنتيجة أفلام ترصد الحياة اليومية من دون انعطافات كبرى مختلقة، إذ يمكن ملعقةً يتعثر بها آندي في «الحياة حلوة» (1990) أن تشكل نهاية الفيلم، ونحن نراه جالساً في البيت وقد علّق الملعقة على الحائط.
في «أسرار وأكاذيب»، تمضي الحبكة جنباً إلى جنب مع الشخصيات في ثلاثة خطوط درامية، سرعان ما تتشابك لتضيء على كل تلك الأسرار والأكاذيب التي تستقر في حياة كل شخصية. ويجد مايك لي في «عام آخر» تقسيماً درامياً يتكئ على الفصول التي سرعان ما تمسي فصول الفيلم والسنة أيضاً. ويقدم لنا في النهاية عاماً كاملاً، ونقطة ارتكاز رئيسة تتمثل في عائلة توم (جيم برودبنت) وجيري (روث شين)... من دون إحالة إلى شخصيتي توم وجيري في الرسوم المتحركة الشهيرة إلا من باب المفارقة! فتوم وجيري في «عام آخر» هما مثال التناغم والتفاهم، لا بل سيكونان حبل نجاة لكل من حولهما، وبر أمان لكل الذين يتخبّطون بمصاعب الحياة.
نبش الشخصيات يأتي من باب عائلة توم وجيري، وفي شيء من مجاورة النجاح والفشل، والاستقرار والقلق. توم وجيري ناجحان في زواجهما وعملهما، وأيضاً في علاقتهما مع ابنهما الوحيد. هذا النجاح سيكون فاقعاً لا لشيء، إلا لما يحيط بهما من فشل الأصدقاء، الذين يحاربون الوحدة والملل، والمصائر والقصص التي لا تكتمل.
ماري (ليسيلي مانفيل) هي الشخصية الأكثر تعقيداً واضطراباً. إنها المرأة الوحيدة والكحولية، الصاخبة والخرقاء، تنسج الأكاذيب، مليئة بالحسد من دون أن يفارقها الحب. تتأرجح بين الخيبة والمسرة، والصعود والهبوط، وتبحث عن الحب لتجده دائماً في الشخص الخاطئ، إلى درجة تفكر باتخاذ ابن توم وجيري عشيقاً لها، وسرعان ما تتعرّف على حبيبته، فتهبط عليها الخيبة مضاعفة، وتصل نهاية الفيلم وقد أصبح صخبها هدوءاً قاتلاً.
ومع كل فصل، هناك جديد يطرأ، شخصية جديدة تدخل معترك الفيلم من خلال عائلة توم وجيري. وحدها ماري تبقى إلى النهاية. أما كين (بيتر وي) الأرمل الذي لا يتوقف عن التدخين، وتتهرب منه ماري حين يسعى إليها، فسرعان ما يفارق الفيلم ويعود إلى حياته المعطلة بعيداً عن توم وجيري. بينما يدخل في الفصل الأخير روني (ديفيد برادلي) أخو توم العامل البسيط الذي يفقد زوجته ويعاني من المشاكل مع ابنه المضطرب.
شخصيات كثيرة من لحم ودم، نعايشها من تصرفاتها وردود أفعالها، مع الاستعانة الكبرى بالحوار الذي يمثّل واحدة من الأدوات الرئيسة في عالم لي السينمائي، القادم من المسرح أيضاً. لا بل إن باكورته «لحظات كئيبة» (1971) كتبها كمسرحية، وسرعان ما حوّلها إلى فيلم. وفي التناوب الفصلي في «عام آخر» ما يشي بتقطيع مسرحي، واعتماد بيت العائلة كخشبة مسرحية، تكون الأحداث التي تجري خارجها معدودة لا تتجاوز بعض مواقع تصوير، كما لو أنها أحداث من خلف الكواليس!