آبي لينكولن... رمت الحياة بعيداً



قبل أيام انطفأت الديفا السمراء في الثمانين، بعد نصف قرن من العطاء غناءً وتأليفاً، رافقت خلاله عمالقة الجاز، وشاركت في أفلام بارزة، وناضلت ضدّ العنصريّة


بشير صفير
على غلاف عدد تموز وآب (يوليو/ أغسطس) 1991 من مجلة «جاز ماغازين» الفرنسية، صورةُ ستان غتس (1927 ـــــ 1991) متوارياً من خلف جدار. يومها، أفردت المجلة المتخصّصة ملفاً وداعياً لعازف الساكسوفون الكبير، تمحور حول ألبوم You Gotta Pay The Band للمغنية آبي لينكولن. قبل أشهر قليلة من رحيله المفاجئ، دعت الفنانة زميلها إلى تسجيل أسطوانتها الجديدة، في أول (وآخر) لقاءٍ فنيّ جمع بينهما. اليوم جاء موعد اللقاء الثاني. لكنّ غتس هو صاحب الدعوة.
ها هي آخر الكبار في عالم الغناء الجازي (وفروعه) ترحل عن هذه الدنيا تاركةً خلفها تسجيلاتٍ وأعمالاً فنيّة خالدة. إنها الأميركية آبي لينكولن المولودة عام 1930. في 6 آب الحالي احتفلت بميلادها الثمانين، وفي 14 منه أغمضت عينيها بهدوء، بعد ثلاث سنوات من الانكفاء الذي فرضه تدهور حالتها الصحية. قد لا يكون رحيل لينكولن خسارة فنية كبيرة على غرار شارلي باركر أو بيلي هوليداي أو جون كولتراين. فالفنانة السمراء عاشت سنين مديدة، وحياة مليئة بالإنتاج الفنّي في الغناء والموسيقى أولاً وفي السينما ثانياً. لكنّ الفراق مؤلمٌ في كل الأحوال. وقد يكون رحيلها مناسبة لتقديمها إلى جمهورٍ لم يصادف اسمها في زحمة الأسماء المروَّج لها في الإعلام (العربي خصوصاً).
يمكن المستمع أن يجد أصواتاً كثيرة أقوى طاقةً من صوت آبي لينكولن، كذلك يمكنه أن يقع على أصوات كثيرة تتمتع بالنبرة الصادقة التي تأتينا في أعمال المغنية الراحلة. لكنّ ثمة خصائص فنية تمتلكها الراحلة، لن نجدها في سواها. بين الأصوات النسائية الشهيرة في عالم الجاز أو غيره، لا براءة تتخطى (أو تشبه) تلك التي كان ينضح بها صوت لينكولن. براءة أرادتها مصدراً دائماً للأمل، ذاك العنصر الذي تعدّه محور الحياة، رغم الحزن القاتل الطاغي على بعض ما غنّت.
كثيرات من المغنيات في هذه الفئة ألمَمن بالتأليف الموسيقي أو بكتابة النص (من الأسماء القديمة والجديدة)، لكنّ صاحبة Throw It Away (أغنيتها الخاصة الأشهر) كانت الأبرع في هذا المجال. إلى جانب استعادة الكلاسيكيات وإضافة توقيعها الأدائي عليها والتعاون مع مؤلفين وموسيقيين وكتّاب بارعين، كانت آبي لينكولن تحرص على التأليف كواحدٍ من أصدق سبل التعبير عن النفس برأيها. هكذا، فإنّ أشهر أغنياتها تحمل توقيعها نصاً وموسيقى، مثل Throw it away التي أعطت الألبومات الواردة فيها (بين 1980 و2007) دفعاً إضافياً.

صدر ألبومها الأخير قبل ثلاث سنوات بعنوان «آبي تغنّي آبي»
إلى جانب مسيرتها الخاصّة، تطول لائحة من تعاملت معهم Abbey Lincoln بين أبرز رموز الجاز القدامى والمخضرمين والجيل الجديد أيضاً. إضافة إلى لقاء القمة مع ستان غتس (الذي شارك فيه أيضاً عازف الكونترباص شارلي هايدن وعازف البيانو هانك جونز وغيرهما)، عملت آبي لينكولن مع كبار الموسيقيين في عالم الجاز، يأتي في مقدمهم أحد أهم المجدّدين في العزف على الدرامز في التاريخ، ماكس روتش (تزوجا عام 1962 وتطلّقا عام 1970) الذي منحها دفعاً كبيراً في عزّ انطلاقتها، وفي مرحلة نضالها ضد العنصرية. إلى روتش نذكر من تلك الفترة بول تشايمبرز، سوني رولنز، كيني دورهام، كولمان هوكنز وإيريك دولفي وغيرهم. ومن الأسماء المخضرمة أو المواهب الجديدة نذكر آرتشي شب، بات ماثيني، روي هارغروف... في الفن السابع، لم تكن للينكولن مساهمة كبيرة، غير أنها برعت في أدوار زادت من شهرتها، يبقى أبرزها في فيلم For Love Of Ivy (1968) إلى جانب الممثل الشهير سيدني بواتييه. في المقابل، قدمت الفنانة الراحلة مسيرة فنية موسيقية تتخطى نصف قرن من الزمن، أنتجت خلالها العديد من التسجيلات. أما ألبومها الأخير فصدر قبل حوالى ثلاث سنوات، أي قبل تدهور حالتها الصحية، وهو بعنوان «آبي تغنّي آبي».

("Throw It Away" 1st version / 1980)





("Throw It Away" last version / 2007)