قبل أيام، صدر قرار مجهول المصدر يقضي بإقفال أكشاك الصحف في الشارع البيروتي. ثمّ ما لبث أن تبرّأ الجميع من القرار وتراجعوا عنه. لكن من يضمن عدم صدور قرار مشابه مرة جديدة؟ ومن يحافظ على حقوق أصحاب هذه الأكشاك؟
محمد محسن
سينجو روّاد شارع الحمرا (بيروت)، صباح اليوم، من مفاجأة سمجة كانت تنتظرهم. مفاجأة كانت ستغيّر معالم الشارع أيضاً، أسوةً بمعالم أخرى كانت تسكنه، ولم يتصوّر أحد أن تختفي. إذ صدر أخيراً قرار إداري، لم يتنبّه له أحد، يعطي مهلة تنتهي اليوم، لإزالة أكشاك الصحف والكتب، وإلا فستُقفَل بالشمع الأحمر. أمّا الحجة، فهي عدم حصول هذه الأكشاك على التراخيص. طبعاً يرفض الباعة هذا الاتهام،,!--لاقثشن--. مؤكدين أنّهم شرعيون وقانونيون ويدفعون الرسوم للدولة، باستثناء مبلغ خمسة ملايين ليرة (أكثر من ثلاثة آلاف دولار) المفروض عليهم كل سنة ولا تقوى ميزانيتهم المتواضعة عليه. علامات استفهام عدة ترتسم حول هذا الملف: ماذا سيبقى من معالم الحمرا إن أزيلت أكشاك الصحف؟ من سيحرم روّاد مقاهيها قراءة صحفهم كل صباح؟ وهل بهذه السهولة تمحى ذاكرة شارع مثّل في أحد الأيام شريان المدينة وخزانها؟
بدأت القصة قبل أيام قليلة حين حضر إلى الحمرا أحد عناصر التحرّي، وأبلغ أصحاب الأكشاك أنّ مهلة إزالة أكواخهم الصغيرة تنتهي الاثنين المقبل (اليوم) بعدما رفعت بلدية بيروت دعوى عليهم. واللافت أنّ هؤلاء لم يتسلموا أي بلاغ خطي يشير إلى ذلك. لكن الأمر بحسب أحد البائعين «أقلقنا كثيراً. هذا مورد رزقنا، والأكشاك من معالم قليلة باقية تشهد على تاريخ الحمرا». بعد ذلك، يقول أصحاب الأكشاك إن أحد الموظفين العاملين في محافظة بيروت أبلغهم صراحةً بما يأتي: «البلدية رفعت دعوى عليكم، لأنكم لم تدفعوا الرسوم المستحقة. أقفلنا كشك الأشرفية، ويوم الاثنين دوركم». موظف آخر، دعاهم إلى الذهاب عند «مسؤول كبير» وحلحلة الموضوع!
تكتّم أصحاب الأكشاك على تحركهم، وتأكدوا من خلال نقيب الصحافة محمد البعلبكي من أنه لا علاقة لبلدية بيروت بالأمر، ووعدهم النقيب بمتابعة الموضوع مع وزير الداخلية والبلديات زياد بارود. هكذا، ظلّت الأمور تسير بضبابية، حتى يوم الجمعة الماضي، حين اجتمع أصحاب الأكشاك مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. خلاصة الاجتماع كما نقله بعض من حضره لـ«الأخبار» كانت «تفهّم الرئيس لحالنا، ووعدنا بتسوية الموضوع بما يضمن حقوقنا، ويُبقي تراخيصنا على تسعيرة الـ100 ألف ليرة التي كنا ندفعها قبل عام 1993».
أصحاب الأكشاك عاجزون عن دفع ثلاثة آلاف دولار سنوياً للبلدية
المهم أن الأكشاك ستبقى، وثمة اتجاه لتعزيز وضعها وتثبيتها وفقاً لمعايير نهائية، تلحظ أهمية وجودها كواجهة جميلة في بيروت. هذا ما يوحي به كلام زياد بارود لـ«الأخبار». فقد أكّد هذا الأخير أنّه أرسل «منذ يومين كتاباً إلى محافظ بيروت، طلب فيه عدم إزالة أكشاك الصحف من شارع الحمرا». يشدّد بارود على أنّ ثمّة لغطاً حصل بين قرار «إزالة البسطات التي تشوّه شكل العاصمة ولا تستوفي التراخيص القانونية، وبين أكشاك الصحف». هكذا، يؤكد بارود حرصه على وجود هذه الأكشاك ويطمئن أصحابها «لن يُقطع رزقكم. الأكشاك لا تؤثر في السلامة والنظافة العامَّتين، وهي واجهة جميلة في شارع الحمرا، وهذه الظاهرة موجودة في كل عواصم العالم. أنا حريص عليها...».
وعن إيجاد حل نهائي لمسألة الاكشاك، يؤكد بارود قائلاً: «في كتابي إلى المحافظ طلبت التريث في إزالة الأكشاك ريثما تتحسن أوضاعها وتوضع معايير محددة لها». كلام بارود في جزئه الأخير يتقاطع مع كلام محافظ بيروت بالتكليف ناصيف قالوش الذي أكد أن «القرار لم يصدر عني. ولا أحد يستهدف أكشاك الصحف والكتب في الحمرا. لن يتعرّض لهم أحد». هكذا يبقى من المعنيين بالملف، بلدية بيروت التي يؤكد رئيسها بلال حمد أن «مسألة الأكشاك في شارع الحمرا ليست عندنا، وتعود المسؤولية عنها بالدرجة الأولى إلى مجلس الوزراء. في كل الأحوال، سنبذل جهوداً لمساعدة أصحابها قدر الإمكان». المعنيون بقرار الإزالة نفوا أن يكونوا قد اتخذوه. الخبر أسعد أصحاب الأكشاك كثيراً. ذكرياتهم لن تمحى، وباب رزقهم البسيط سيبقى مفتوحاً. يبدي نعيم صالح سعادته بعدم وصول قرار الإغلاق إلى التنفيذ. يؤكد صاحب أحد الأكشاك الموجودة في الشارع البيروتي الشهير منذ 40 سنة «لم نكن يوماً ضد القانون، ونحن نريد دفع رسومنا لكن بما يتناسب وطاقتنا الإنتاجية. جميع رواد الشارع يحبوننا ولم يشتك منّا أحد». لا يلبث أن يبدأ بسرد غيض من فيض ذكرياته: «كنا نستفيق عند الخامسة فجراً لنحضر صحيفة «الأوريان». ننام بين رزمات الورق في المطبعة لنوصل الصحيفة إلى الناس». يسرد أحداثاً أخرى لا ينساها «يوم توفي عبد الناصر، بعنا كل الصحف من دون استثناء ولم يبق عدد واحد. وفي 7 شباط (فبراير) 1984 (يوم إسقاط اتفاق 17 أيار/ مايو) بعت 4 آلاف عدد من جريدة «السفير». لا أنسى كيف كان جبران تويني الجد يحرر صحيفة «النهار» وينزل إلى الشارع ليبيعها بنفسه، وكيف كان سليم اللوزي يجلس منتظراً طباعة مجلة «الحوادث» ليعطينا 450 عدداً نبيعها على الفور». إذاً، تراجع الجميع عن قرار الإقفال، فهل يكون هذا التراجع نهائياً؟ أم أن قرارات شبيهة ستعود للظهور في الفترة المقبلة؟ أسئلة لا تزال تقلق أصحاب الأكشاك.


بين باريس والحمرا

في شارع الشانزيليزيه في فرنسا 35 كشكاً لبيع الصحف والكتب، تسعة منها يملكها عرب بينهم لبنانيون. وكما يروي بعض من عاشوا هناك، فإن أوضاع هؤلاء هناك مزدهرة. أما في الحمرا فيقول أصحاب الأكشاك، إن الأوضاع «تزداد تراجعاً. كنا نبيع آلاف الصحف يومياً، أما في هذه الأيام فنبيع تقريباً 150 عدداً في كل كوخ» يقول نعيم صالح. ويشير إلى أن الفترة الممتدة بين عام 1992 وعام 1996 كانت «فترة ذهبية بالنسبة إلينا، كنا نبيع كثيراً لرواد المنطقة وللسياح». أمّا اليوم، يقول صالح «فقد تراجع عملنا وبتنا نقفل باكراً».