قنبلة آذر نفيسي في لغة الضاد
ابنة محافظ طهران في عهد الشاه، تتنعّم اليوم بالديموقراطيّة الأميركيّة، بعد هروبها من نظام الملالي في طهران. وفي كتابها الشهير الذي أدخلته «منشورات الجمل» إلى المكتبة العربيّة، تداعب المخيّلة الغربية، وتستثير روائح الشرق و... تهاجم إدوارد سعيد

أحمد الزعتري
أنجزت آذر نفيسي (1955) كتاباً مشوّقاً. «أن تقرأ لوليتا في طهران» الصادر بنسخته العربيّة عن «منشورات الجمل» (ترجمة ريم قيس كبة) يقدّم توثيقاً غنيّاً، خصوصاً في نبش تلك التفاصيل التي نراها من بعيد على التلفزيون لصبايا تناسين شدّ الحجاب.
تروي أستاذة الأدب الإنكليزي السابقة في جامعتيّ «طهران» و«العلامة الطباطبائي» هذه التفاصيل بلغة جزلة. بدءاً من عودتها إلى طهران عام 1979 بعد دراستها في أميركا، ورحلتها في مشاكسة مؤيّدي الثورة الإسلاميّة التي استولت على النظام في السنة عينها، إضافة إلى الحرب العراقيّة الإيرانيّة. هذه المشاكسة أدّت إلى استقالتها من التدريس بسبب رفضها ارتداء الحجاب والشادور سنة 1995، حتى هجرتها إلى أميركا سنة 1997.
بين 1995 و1997، أسّست نفيسي صالوناً أدبيّاً في منزلها لمناقشة الأدب الغربيّ الذي مُنع من التدرس في الجامعات الإيرانية، ودعت إليه عدداً من «بناتها المفضّلات» من طالباتها السابقات. هذا المشهد الذي تفتتح به المؤلّفة كتابها الشهير (صدر باللغة الإنكليزيّة سنة 2003)، كان يمكن أن يكون بداية كتاب عظيم، يرصد التحوّلات الثقافيّة من كل الزوايا... لكنه سرعان ما تحوّل إلى كتاب استشراقيّ بامتياز.
لا يتعلّق الأمر بمناقشة رواية «لوليتا» لناباكوف، و«غاتسبي العظيم» لفيتزجيرالد، وروايات جين أوستن وفلوبير وكافكا، بل بتجيير هذه الأعمال لخدمة الزاوية العمياء التي تفكّر بها الكاتبة طيلة الكتاب. فـ«قدرنا يتطابق مع قدر غاتسبي»، و«لوليتا» التي صادر هومبرت مستقبلها وحياتها في رواية نابوكوف الشهيرة، ليست سوى الخميني الذي صادر إيران بتاريخها ومستقبلها، وفرض رؤيته الخاصة وفق الكاتبة.
طبعاً، لا يمكن المزايدة على معاناة الإيرانيين في ظلّ الثورة الإسلاميّة التي فرضت اتجاهاً محدداً لحضارة عريقة وغنيّة ومنفتحة. لكنّ نفيسي فعلت الشيء نفسه من جبهتها المضادّة، إذ ذهب الناقد الإيراني ـــــ الأميركي حميد دباشي إلى أنّ «لوليتا» الإيرانيّة خدمت البروباغندا الأميركيّة في عهد المحافظين الجدد.
في مقالة «الوشاة الأصليون، وصناعة الإمبراطوريّة الأميركيّة» التي نُشرت في أسبوعيّة «الأهرام» الإنكليزيّة (عدد 797)، رأى دباشي أن الكتاب «يبغض كل شيء إيرانيّ، من الأعمال الأدبية العظيمة إلى الإنسان العادي»، و«يستفزّ أكثر التخيّلات الأميركية الأوروبية ظلمةً عن الشرق». واتّهم دباشي نفيسي بالجهل والخداع والانجرار وراء النظرة الاستشراقيّة التي ما زالت تحظى بالرواج، وذلك بدءاً من عنوان الكتاب الذي يدغدغ هذه النظرة، وليس انتهاءً بصورة الغلاف.
اتّهمها حميد دباشي بالاستشراق وبخدمة البروباغندا الأميركيّة في عهد المحافظين الجدد
خلال تدريسها في الجامعة، ووسط بداية سيطرة أركان السلطة على المجتمع، تصف نفيسي المناقشات التي كانت تدور حول الروايات الكلاسيكيّة الغربيّة، وكيف اصطُدم بالمنظّرين الصغار للثورة. وإحدى هذه الشخصيات هو «نهوي». بعد مناقشة «إيما» لجين أوستن، يلحق نهوي بنفيسي إلى مكتبها ليشرح لها أنّ أوستن «كاتبة استعماريّة». تعلّق نفيسي على هذه الحادثة لتكتشف أنّ نهوي جاء بأفكاره من «الثقافة والإمبرياليّة» للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد. «من السخرية أن أجد إسلاميّاً متشدّداً يلجأ إلى الاقتباس عن إدوارد سعيد ضد أوستن. ومن السخرية أن تكون العناصر الأكثر رجعية في إيران متفقة مع نظريات أولئك الكتّاب الذين يعدّهم الغرب ثوريين، وأن يقرر الرجعيون اختيار أعمالهم دون سواها». تقول ذلك بينما تعمل على استثارة المنطقة الأخطر إعلاميّاً: «الهولوكوست». إذ تشبِّه ما قاساه اليهود بما يعانيه الإيرانيون في ظل الثورة الإسلامية من إعدامات سرية. وتقول إنّ ضحايا تلك الإعدامات ذاقوا الموت مرّتين: مرة بموتهم الفعلي، ومرة بالتعتيم وإخفاء هويات المعدومين. ثم تقتبس جملة من الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت ترى أنّها تصحّ على الإيرانيين: «لقد أقرّ اليهود بحقيقة أنهم لم يكونوا موجودين أصلاً».
وبينما يهاجمها دباشي بسبب هذه النقطة تحديداً، تذكر نفيسي، التي تدرّس حالياً في «جامعة جونز هوبكنز» أن خلافها مع سعيد «أدبي بحت»، مشيرة إلى أنّ «ما حدث لسعيد هو أن أشخاصاً استعانوا بنظرياته وبسّطوها. وأصبحت نظرياته سطحية جداً بفضل أشخاص استقطبوا الجماهير». ثم تحاملت عليه في موقع آخر، مضيفةً: «سعيد يجيّر كل فكرة لا تعجبه لمصلحة نظرية الإمبرياليّة».
في الواقع، محاججة نفيسي ستكون من خلال نفيسي نفسها. بينما تقول إنه «ليس بالإمكان تجيير أي عمل فني لمصلحة السياسة»، تتجذّر نظرية نفيسي في «لوليتا» كأدب مقاوم للنظام الإيرانيّ الحالي. هي لا تقول ذلك، لكنها تقدّم لنا الكتاب، ونفسها كذلك، إذ إنّ ابنة محافظ طهران في نظام الشاه الذي أقيل واعتقل، وابنة أول نائبة في البرلمان، تلتزم الصمت مرة أخرى في كتابها اللاحق «أمور التزمتُ الصمت بشأنها» (2008). هنا تحكي معاناة عائلتها تحت النظام الثوريّ من الزاوية العمياء ذاتها، لكنها هذه المرة تطرق باب الخيانات والعشيقات: «يخون معظم الرجال زوجاتهم ليحصلوا على محظيّات». هل كانت «لوليتا» تتناسب أكثر مع زمن الشاه؟