تؤكّد أنّ الفكر الإسلامي تصلّب منذ زمن ابن رشد، فهل يعني ذلك أنّ حركات الإصلاح الديني، التي ظهرت في العالم الإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، لم تتمكّن من إحياء هذا الفكر؟ ـــــ كانت فعلاً حركات إحياء. (...) وكان محمد عبده وجمال الدين الأفغاني مشغولَين بمسائل أكثر عموميةً من القضايا الدينية: التحرر الوطني ومحاربة الطغيان... من هنا، يمكن أن تُسمى الحقبة «عصر النهضة». بتعبير «تصلّب الفكر الديني»، أقصد أنّ هذا الفكر فَقَدَ حيويته. وكانت الحيوية تتجسّد عبر تعددية المدارس الفقهية والشرعية. وبدأ هذا العصر، الذي يوصف بالحضارة العربية الإسلامية، بالزوال بعد ابن رشد. لا أقول إنّ هذه الحركات الإصلاحية لم تحمل شيئاً للفكر الإسلامي (...). مع ذلك، يُطرح السؤال: لماذا لم يُترجَم فكرهم إلى وقائع؟ يكمن الجواب في طبيعة الأنظمة السياسية، وعلاقة أهل الفكر بهذه الأنظمة في الحقبة الاستعمارية .(...) وبسبب ذلك، لم يستطع الفكر الإصلاحي إيجاد أرضية ولا إحداث تغيير اجتماعي.

ما كانت نقطة ضعف ذلك الفكر الإصلاحي؟
ـــــ أوروبا التي كانت قارة متقدمة، وأتى تقدمها ثمرة حركة إصلاح ديني، وحركة فلسفية كتيار التنوير، وثورة علمية... كانت أوروبا تحتل أرضنا وتحرمنا حريتنا، وهنا مفارقة لم يستطع هذا الفكر الإصلاحي حلّها (..). فقد أسهمت فلسفة التنوير مثلاً في إعطاء دفع للاستعمار، إذ كان العقل للعديد من فلاسفة هذا المذهب «عقل الرجل الأبيض» الذي تقضي مهمته بقيادة الشعوب المتخلّفة! وكان الفكر الإصلاحي يخضع لضغط آخر. فقد وجب أن يجد تبريراً للحداثة في التراث! من هنا، نشأت الثنائيةُ التي كوّن قطبَيها التجديدُ من جهة، والتراثُ من جهة ثانية. فاقترح مفكّرون تقدميون، إذا جاز القول، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، أن يحدِّثوا التراث. (...) فارتبطت المسألة بتحديث التراث لا أكثر. أسلمة الحداثة بدلاً من تحديث التراث الإسلامي: كان هذا اقتراح الجيل التالي من المفكرين. (...). معهم، تحوّلت مسألة الثنائية تحديث ـ تراث إلى قضية تتعلّق بالهوية.

أنتَ وجمال البنا وغيركما من المفكّرين تبذلون جهوداً لإصلاح الفكر الديني. ولكن تبقون أقلية...
ــــــــ كانت جامعة أوكسفورد في البداية جزءاً من المؤسسة الكنسية. ويشير ذلك إلى أنّ الحداثة في أوروبا بدأت في المؤسسات التقليدية. لدينا، بوشر بها عبر بناء مؤسسات مثل الجامعات، تتمتع بوجود مواز للمؤسسات التقليدية. فالحداثة لم تحلّ محل التقاليد، بل تتعايش معها. وتكمن المشكلة في أن وسائل الإعلام والنظام التعليمي يعيشان وضعاً مأساوياً (...) الحركة الإصلاحية يقوم بها أفراد لا مؤسسات. لكن أيّ فكرة تتمتع بصدقية لا تذوي تماماً لأنها رُفِضت موقتاً. هي تتسلّل حتى إلى لاوعي التقليديّين. أُدِنتُ بسبب جمل اقتطُعت من سياقاتها مثل «القرآن نص تاريخي». بعد دخول الإخوان المسلمين إلى مجلس الشعب، سُئل مرشدهم ما سيكون وضع المسيحيين المصريين في دولة إسلامية. فكرّر خطاب حركته التقليدي عن المساواة في الحقوق والواجبات. ثم شرح أنّ الأقباط سيُعفَون من الخدمة العسكرية إذا قامت حرب ضد دولة نصرانية ـ لاحظ جيداً استخدام صفة «نصرانية» ـ كي لا يشعروا بالحرج. وبما أنهم سيُعفَون، سيتوجب عليهم دفع تعويض للدولة! لقد تجنّب المرشد أن يطلق على هذا التعويض تسمية «الجزية». أحدث هذا التصريح اضطراباً في مصر. فماذا أعلن شيخ الأزهر؟ أنّ «الجزية ممارسة تاريخية»! كان يناقض منطقه الاعتيادي، إذ، وفق هذا المنطق، لا يمكن «الجزية» أن تمثّل «ممارسة تاريخية» بما أنّها مذكورة في القرآن! كنت أستطيع مقاضاته أمام المحاكم (...) استخدامه كلمة «تاريخية» هو بالنسبة إليّ دليل على أنّ الأفكار الإصلاحية خلّفت فيه أثراً.

لماذا بقي الفكر التقليدي والتفسير الحرفي للقرآن طاغيَين في العالم الإسلامي؟
ـــــ لأنّ الدولة تؤكّد أنّ دينها الإسلام والشريعة مصدر تشريعها. تمثّل الحرية خطراً على الأنظمة.
■ لكنّ بعض الحركات التقليدية يعارض هذه الأنظمة.
ـــــ هو صراع على السلطة (...) يرفضون هذه الأنظمة «لأنها كافرة» و«لا تطبّق الشريعة» (...) انتقادهم لا ينطلق من الحقوق البشرية بل من الحقوق الإلهية (...) أطالب بالفصل بين الدين والدولة. فالدولة التي تملك ديناً هي كارثة.

يستخدم اليمين المتطرف الأوروبي بعض الآيات ليُظهر ما يسمّيه «الطابع العنيف جوهرياً للدين الإسلامي». فما قولك؟
ـــــ (...) يجب أن يُنظَر إلى القرآن بكليّتة (...) وتفسيره على ضوء التاريخ. ولفظة «جهاد» تعني في القرآن: «بذل أكبر جهود ممكنة» في مختلف المجالات، وليس في محاربة الأعداء فقط (...)

هل تحديد الجهاد باعتباره يدعو إلى القتال صار رائجاً، لأنّ قوى أجنبية تحكم بعض الدول المسلمة؟
ـــــ أسهمت أوروبا العلمانية في إنشاء دولتين دينيّتين، واحدة مسلمة هي باكستان، ويهودية هي إسرائيل. لكنّ الاحتلال واقع سياسي، فالدولة العبرية لا تحارب الفلسطينيين بالتوراة، بل بجيشها.

(من حوار أجراه الزميل ياسين تملالي مع المفكّر، ونشر بالفرنسيّة على موقع www.babelmed.net بتاريخ 29/ 12/ 2009 ــــ تعريب: جورجيت فرشخ فرنجية)