محمد خير«ولما ظهر الترام وطاب السهر، وأقبل الشبان على العربدة، أخذ خطباء المساجد يبكون على المنابر وينوحون، ويذرفون الدمع السخين، قائلين بدنو الساعة، واقتراب يوم القيامة، وأن الدين قد تركت أحكامه، واشتبهت أعلامه، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه».
تتفاوت المدة الزمنية بين ظهور طبعات مختلفة من كتاب بعينه، لكن كتاب محمد سيد كيلاني «ترام القاهرة» انتظر 42 عاماً كي يظهر مجدداً. إذ إنّ طبعته الأولى أصدرتها «دار الفرجاني» عام 1968. وأخيراً، أعادت «هيئة قصور الثقافة» إصداره ضمن سلسلة «ذاكرة وطن». لكنّه من الكتب التي لا تُبلى، لا لأنه يحكي لحظة نادرة هي إطلاق الترام قبل أكثر من قرن، بل لأنّ مؤلفه محمد سيد كيلاني اعتمد التوثيق الصحافي منهجاً. هكذا، انعكست اللحظة على مرآة صحف «اللواء» و«المؤيد» و«المقطم» وغيرها من صحف ذلك العصر البعيد، بدءاً من العاشرة من صباح الأول من آب (أغسطس) 1896، حين أقامت الشركة البلجيكية حفلةً تجريبيةً لتسيير أول قطار كهربائي انطلق من بولاق إلى القلعة «وقد اصطف الناس على الجانبين ألوفاً وعشرات الألوف، ليشاهدوا أول مركبة سارت في العاصمة بقوة الكهرباء، والأولاد يركضون وراءها مئات وهم يصرخون: العفريت، العفريت». (جريدة المقطم ــــ 1896).
منح القاهرة أبرز ملامح المدنيّة الحديثة
لكن الانبهار والخوف والتوجس كانت مشاعر طبيعية في زمن مصابيح الزيت وعربات الكارو، عندما كان الانتقال بين الأحياء أمراً نادراً محفوفاً بالمخاطر. وكان الناس يفضلون الكن في الحارات والعشش متزاحمين متشاركين الفقر والأمراض. ومع ظهور الترام، تكرّست المدينة بالمفهوم الحديث. نشأ لأول مرة ما يسمى «الرأي العام»، وانتعشت «السياسة»، وتقدّم الفنّ لأنّ «الجمهور» أصبح ينتقل بسهولة إلى المسارح. ثم ظهر «النقد المسرحي» وازدهر النشاط التجاري، فلم يعد نشاط التاجر مقتصراً على حيه الصغير. كذلك ازدهرت التجارة وانتعشت معها الجريمة وظهر نوع جديد من السرقة هو «النشل» في الترام. وقد انتظرت جريدة «اللواء» حتى 1910 لتكتشف أنّ «اللصوص إنما أولئك الأولاد الذين ينطلقون من جهة الشمال، بحجة اللعب والركوب، حتى إذا صادفوا غرة من أحد الركاب، سلبوا منه ما تصل يدهم إليه».
التجارة واللصوصية متلازمتان، لكن الترام ربط بهما ظاهرة جديدة هي الإعلانات التجارية. استخدمت عربات الترام نفسها وسيلة للدعاية للأنشطة التجارية. لكن الصحف أيضاً عرفت الدعايات بعدما اطمأن التجّار إلى إمكان وصول الزبائن من أي مكان. وكانت الإعلانات «مغرية» بما يكفي على النحو الذي نشره صاحب «حمام شنيدر» في جريدة «المقطم» سنة 1898. إذ أعلن أنه «فتح أبوابه من أول ديسمبر الجاري لطالبي الاستحمام فيه».
منح الترام عاصمة مصر أبرز ملامح المدنية الحديثة التي أفزعت المحافظين، فقد اختلط الرجال والنساء وانتشر الغزل، وارتبطت فئات العمال فظهرت الاعتصامات أو «الاعتصابات» كما سمتها الصحف. وفقد أصحاب الدواب والكارو سيطرتهم على سوق النقل، وكثر البناء في الأماكن الفسيحة على جانبي خطوط الترام وظهرت منطقتا المعادي ومصر الجديدة. لكن أطرف نتائج الترام كانت ظاهرة «الأدب الترامي» وتنافس فيه الأدباء الذين كتبوا يمدحون ويذمون تراماً «تحملني إلى مغناك ساري/ بلا خيل يسير ولا بخار».