يسخر «عسل إسود» من بلد «الأمن والأمان». أمّا «لا تراجع ولا استسلام: القبضة الدامية»، فيلعب على مبالغات أفلام الجاسوسية المصرية
القاهرة ــ محمد خير
خبر صادم ينقله المسؤول الأمني إلى الشاب الفقير: لنجاح «المهمة»، يجب بتر إصبع قدمه، كي يتشابه تماماً مع المجرم الخطير الراحل أدهم، وبالتالي كي يسهل دس الشاب مكان الراحل بين أفراد العصابة.
استغلال التشابه بين شخصين «تيمة» شهيرة في السينما، والمشهد السابق هو محاكاة لأشهر مشاهد الفيلم الكلاسيكي «إعدام ميت». لكنّها هنا محاكاة ساخرة. بعد قص إصبع الشاب الفقير حزلقوم (أحمد مكي)، تبدأ المهمة وتنتهي من دون أن ينظر شخص واحد من العصابة إلى القدم المصابة!
قبل أن يدخل متفرّج واحد إلى فيلم أحمد مكي الجديد «لا تراجع ولا استسلام: القبضة الدامية»، مهّد برومو الفيلم للجمهور بأنّه أمام أحد أفلام المحاكاة الساخرة (البارودي)، وعرضت الدعاية مشهداً يعترض فيه الضابط (محمد شاهين) على فكرة المهمة/ الفيلم قائلاً: «لكن يا فندم الفكرة دي اتهرست في 300 فيلم عربي قبل كده!». فيجيبه المسؤول (ماجد الكدواني): «وعشان كده، محدش ها يفكر إننا ممكن نعملها تاني (...) وده اللي خلاني أسمّي المهمة: لا تراجع ولا استسلام، وبين قوسين القبضة الدامية!».
المعروف أن هذا النوع من الأفلام يواجه صعوبة في التنفيذ، حفاظاً على تلك الشعرة التي تفصل بين الكوميديا والسخف. ويمكننا القول إنّ المخرج أحمد الجندي، استطاع في تعاونه الثالث مع مكي ألا يتخطى تلك الشعرة، إلا في مشاهد محدودة، بدا فيها الاستسهال بديلاً من السخرية.
يبقى الاجتهاد سمة أفلام أحمد مكي، حتى مع تغيرّ المؤلف (السيناريست شريف نجيب). واجتهاده وضعه منافساً لمتصدر الإيرادات أحمد حلمي الذي بدأ عرض فيلمه «عسل إسود» (إخراج خالد مرعي) قبل شهر من انطلاق «لا تراجع ولا استسلام...». حتى الآن، لم يخيّب شباك الإيرادات النجمين. إذ لم يحقّقا رواجاً جماهيرياً فحسب، بل اشتركا ـــــ من دون قصد؟ ـــــ في كوميديا المحاكاة.
«حزلقوم» يقضي على العصابة، و«مصري» لا يعود إلى أميركا
صحيح أن فيلم حلمي لا يحاكي أفلاماً أخرى، لكنّه يقدم محاكاة من نوع آخر. المبالغة هنا تسخر من صورة كلاسيكية شبه رسمية عما يلاقيه زائر مصر من «جدعنة» و«حفاوة الناس الطيبين». في «عسل إسود»، يعود المهاجر المصري (مصري سيد العربي) إلى وطنه شاباً بعدما غادره طفلاً، يحمل في قلبه صورةً مثالية رسمتها الأفلام والأغاني، فيصطدم بالواقع. تنكشف «الجدعنة» عن احتيال، والكرم عن نصب، والطيبة عن فوضى. يكتشف المهاجر خطأه الساذج، إذ ترك جواز سفره الأميركي في بيته في أميركا: «لماذا أحتاجه في مصر وأنا مصري؟»، لكنه لا يبدأ في الحصول على الاحترام إلا حين يجلب الجواز الأميركي، فيلقي بالجواز المصري من نافذة الفندق... لكنّه يفقد الجواز الأميركي على أيدي متظاهرين غاضبين! هكذا، يغدو تائهاً بلا هوية، فيبدأ التعرف إلى «وطنه» بالطريقة الصعبة.
يسخر أحمد حلمي من مفهوم «مصر الأمن والأمان» بمعظم ما يحمله من دلالات. أما مكّي فينتقى أحد مستويات تلك الدلالة، ساخراً من مبالغات دراما الجاسوسية المصرية. عملية تغيير الملامح وقطع الإصبع، و«الفلاشة» التي تحمل المعلومات، كلها أمور لا تبدو محلية تماماً. لكن الدراما المصرية اعتادت استخدامها بمبالغة وتخشب. ولهذا، عندما يفاوض المسؤول الأمني جاسوسه حزلقوم حول المبلغ المتفق عليه لقاء المهمة، محاولاً التأثير عليه بواسطة صياغات مثل «عشان خاطر مصر»، يكون رد حزلقوم منطقياً: «وأنا هاجي إيه يا باشا جنب الناس اللي تعبت عشان مصر، الأستاذ أحمد عرابي، ومدام نادية الجندي؟».
استخدام «نجمة الجماهير» إحالة أخرى ــــ مباشرة هذه المرة ــــ إلى سذاجات دراما الجاسوسية التي قدمت الجندي أحد أشهرها/ أسوأها مع فيلم «مهمة في تل أبيب»، علماً بأنّ محاولة إقناع حزلقوم بأداء مهمة «وطنية» تتعارض أساساً و«مهمة» أخرى يبدأ بها الفيلم، وهي محاولة حزلقوم الهرب إلى اليونان عبر البحر عن طريقة الهجرة غير الشرعية. لا يفقد في هذه المحاولة نقوده فحسب، بل يخدعه المهرّب ويلقيه عند سواحل مدينة بلطيم المصرية، فيعود إلى أمه محمّلاً بكيلوغرامات من حلوى «المشبك» التي تشتهر بها تلك المدينة الساحلية! يثير مشهد الحلوى الضحك المؤسي، تماماً كما يخسر أحمد حلمي، في «عسل إسود»، نقوده مقابل أكل حلوى لقمة القاضي، والتهام وجبة الكشري المصرية، وغيرها من المأكولات التي يحضرها سائق سيارة الأجرة (لطفي لبيب)، متقاضياً منه مبالغ تزيد عشرات المرات على الأسعار الحقيقية لتلك المأكولات، في مشهد افتتاحي يمهّد للابتزاز الذي سيتعرض له طوال الفيلم/ الرحلة. وعلى غرار الأفلام التي يحاكيها، ينجح حزلقوم بطل «لا تراجع ولا استسلام» في القضاء على العصابة، والزواج من الفتاة الجميلة (دنيا سمير غانم) وإسعاد أمه (دلال عبد العزيز). لا يختلف الأمر كثيراً في «عسل إسود»، رغم أنّ البطل «مصري» لا يقتنع بثقافة «الرضا بالحال» التي وجدها لدى المصريين ويختار العودة إلى أميركا. إلا أنّه يقرر فجأة في الطائرة أن يبقى في مصر. لا ينسى الفيلم لمسةً أخيرةً: حين طلب من المضيفة العودة إلى المطار، متصنّعاً المرض، يرفض رئيسها ويطلب منها أن تعطيه دواءً، لكن عندما يبرز «مصري» جواز سفره الأميركي، نرى الطائرة تدور في السماء عائدة إلى القاهرة، عاصمة العسل الأسود!

«عسل إسود» حالياً في صالات «غراند سينما» و«أمبير»