Mack the Knife الليلة في «بيت الدين»
«الليلة أو أبداً» ستكون المنافسة على أشدّها بين مهرجانَي بيبلوس وبيت الدين. الأوّل يقدّم الفنان البرازيلي العتيق كايتانو فيلوسو، فيما يحتضن القصر الشوفي سهرة نادرة مع الباريتون الألماني الذي يعيدنا إلى زمن بريشت وفايل

بشير صفير
... وفي الأسبوع الثالث على برنامجها هذا الصيف، حجزت «مهرجانات بيت الدين» موعدَين موسيقيّين متباعدين من حيث النمط. الأول أحياه السبت الفائت، المطرب عبدو شريف، الذي قدّم تحية للعندليب الأسمر، عبد الحليم الحافظ. أمّا اليوم، فننتقل من الأغنية المصرية الطربية الشعبية، إلى الغناء التقليدي الشعبي في ألمانيا العشرينيات والثلاثينيات...
بزيّه الأنيق ومظهره المنمَّق، يطل ماكس رابيه وفرقته الخاصة Palast Orchester من قصر «بيت الدين» مساء اليوم. الأمسية ستكون مميزة بالتأكيد. فلا موعد آخر في المهرجانات اللبنانية الصيفية يندرج في الخانة نفسها، بسبب ندرة الأسماء التي ما زالت تحيي هذا الإرث الغنائي الجميل. ريبرتوار رابيه وأصدقائه يتألف من كلاسيكيات حافظت على نضارتها لناحية النص والموسيقى، رغم السنين والنسيان اللذين طاولاها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. نص برتولد بريشت وحده كفيلٌ بإبقائها حية، فكيف إذا أتى مدعوماً بموسيقى عبقري الأغنية الألمانية حينها، المؤلف الموسيقي الكلاسيكي كورت فايل (1900 ـــــ 1950)، صديق بريشت اللدود!
Palast Orchester تضمّ آلات نفخ ووتريات وبيانو وإيقاعات
طبعاً، لا يتكوّن برنامج رابيه من روائع بريشت/ فايل فقط، لكنّها تمثّل النواة الصلبة التي تنضم إليها عشرات الكلاسيكيات الأخرى من تلك الفترة، إضافةً إلى الأعمال الخاصة المحبوكة على المنوال الفني ذاته... ولد ماكس رابيه عام 1962. درس الغناء الأوبرالي، لكنّ النمط الغنائي الذي ظهر بين الحربَيْن العالميتَيْن في ألمانيا (كما في مجتمعات أوروبية أخرى وفي أميركا)، أو ما يُعرَف بالـ Cabaret Songs وما يدور ضمن هذا الفلك، جذب الفتى الصغير، صاحب الصوت الساحر والحضور الجذاب المطلوب في أداء هذا النمط. بعد فترة من الإطلالات الهاوية، احترف رابيه هذا الفن، فأسّس فرقته الخاصة، Palast Orchester، عام 1987، وتتألف أساساً من آلات نفخ على أنواعها ووتريات وبيانو وإيقاعات. بعد النجاح المحلي من خلال حفلات في المدن الألمانية، ومجموعة إصدارات المرحلة الأولى، بدأ رابيه يعدّ العدّة للتكريس العالمي. هكذا انهالت عليه العروض من الدول الأوروبية والآسيوية، حتى وصل إلى الـ «كارنيغي هول»، الصالة الأميركية العريقة التي يحلم باعتلاء مسرحها أيّ فنان. غنّّى رابيه هناك مراراً، وكانت آخر إطلالاته النيويوركيّة مطلع هذا العام.
في حفلات رابيه و«أوركسترا بالاست»، يبدو الجمهور متشوّقاً إلى أجواء تلك الفترة التي قاموا بإحيائها... فنانون كثر مثّلوا هذا الفن من دون انقطاع، بدءاً من لوتيه لينيا (أقدمهم وأكثرهم كلاسيكية)، مروراً بالفنانة الغريبة الأطوار مارلين ديتريش، وصولاً إلى ماريان فايثفل وأوتيه لامبر (زارت لبنان منذ سنوات) وغيرهم...
يتمتع رابيه الآتي من زمن آخر بصوت مطواع. هو رقيق وساحر في الأنغام العذبة، ومشحون بالطاقة المطلوبة عند اللزوم. من جهة ثانية، يغطي صوت رابيه المساحتَين المشتركتَين بينه (باريتون) وبين التينور والباص، بطبيعة الحال. لكنه يشمل أيضاً بعض النوتات الخاصة بالفئتَين المذكورتَين. كل ذلك يأتي مذيّلاً بجاذبية الحضور كعنصر أساسي في هذا الأسلوب الغنائي، وبغرابة لفظية. رابيه الألماني الذي يغني بالإنكليزية والإيطالية واليابانية، يلفظ حرف الراء في أغانيه الألمانية، على الطريقة النمساوية (ر)، وليس على غرار الألمان والفرنسيين (غ)، وهذا مزعج أحياناً.
أما الأوركسترا، فتؤدي توليفاً خاصاً للشكل (أو التوزيع) الأصلي للأغنيات التي تندرج في ريبرتوار الفرقة. وإذا استثنينا الكلاسيكيات التي تمثّل نقطة الانطلاق لناحية الأسلوب، ويشملها أحياناً تبسيط في التوزيع، يجري أحياناً إعداد أغنيات من الريبرتوار العالمي (بوب/ روك)، لتتناسب مع النَفس المعتَمد، كما في أسطوانتَي Superhits. إلى جانب الخط الأساسي الذي يسير فيه، خاض رابيه تجربة مع الموسيقى اللاتينية، وفروعها الشعبية الراقصة.
لكن تجربته المستقلة الأكثر جدية، تبقى مشاركته غناءً وتمثيلاً في رائعة بريشت/ فايل، أي «أوبرا القروش الثلاثة»، بدور Mack the Knife «ماك ذا نايف»، إلى جانب أسماء كبيرة، أبرزها المغنية أوتيه لامبر. هكذا، يفصح رابيه عن عشقه لمواطنه المؤلف الموسيقي كورت فايل، ويؤكّد احترامه له في الألبوم الذي خصّصه له عام 2000، بعنوان Charming Weill. أما الأمسية المرتقبة اليوم، فسترتكز على الأسطوانة التي جال بها رابيه العالم في الفترة الأخيرة وهي بعنوان «الليلة، أو أبداً» (Heute Nacht, oder nie)، وغيرها من الأعمال...

مساء اليوم ـــــ «بيت الدين» (الشوف/ لبنان). للاستعلام: 01/373430


ليس حنيناً ولكن

«في مكان ما من العالم هناك كمشة سعادة... وأنا أحلم بها الآن»، يقول ماكس رابيه. بذلته الرسميّة لا تعني أنّ المغني الألماني يصنّف نفسه في خانة الـ«لائق سياسياً». اختياره للسنوات المجنونة بين الحربين العالميّتين كمرجعيّة فنيّة، لا يكتنف حنيناً ساذجاً. حين أسَّس Palast Orchester، كان لا يزال طالباً في «معهد الفنون الجميلة» في برلين، ومنذ ذلك الحين قرّر أنّ الموسيقى التي يقدّمها لن تخضع لمنطق الزمن والنوستالجيا. لهذا نجده لا يغنّي فقط، بل يدخل نفسه في عرض أدائي، ويتقمّص شخصيّة مغنٍّ «جغل» يبدو خارجاً من أرشيف سنوات جمهوريّة فايمر (1918 ـــــ 1933). هذه طريقته للسخرية من الحب والماضي وعثرات الوجود الإنساني. من نيوريوك إلى شانغهاي، ومن برلين إلى موسكو وطوكيو، تحوّل صوته وأداؤه إلى علامة فارقة، أدى فيها ـــــ بين السخرية والجد ـــــ أغنيات بوب حديثة منها Sex Bomb لتوم جونز و Ooops لبريتني سبيرز وغيرها...