Strong>شخصياته تواصل القيلولة في «غاليري نبض» أعماله المعروفة التي سبق عرضها في بيروت ومدن أخرى تحتفي باليوميّ والعابر والحميم. على هامش إطلالته الأردنية يسلّط المعلّم اللبناني نظرة قاسية وسوداويّة إلى المشهد الفني في العالم العربي

عمان ـــ أحمد الزعتري
الذهاب للقاء حسين ماضي فيه شيء من الرهبة، وخصوصاً لدى معرفتك بنزق الفنان البادي عليه. حين التقينا في «غاليري نبض» في عمان، حيث يقام معرضه «فنّ حسين ماضي»، استسلمنا لعصبيته وحدّته، إذ افترضنا أنّ فنّاً بهذه الفتنة يعتاش حتماً على أعصاب صاحبه. لم يلق المصوّر الشاب الذي رافقنا معاملةً أفضل. فقد أثار حفيظة الفنان بعدما طلب منه إقفال أزرار قميصه. وكان علينا أن نشرح للمصوّر مَن هو حسين ماضي، وأننا نحن من اقتحم عليه حياته ودوائره الشخصيّة. في الواقع، جميع من قَابل ماضي، أعطاه هذا الانطباع؛ نحن المتسوِّقون المبهورون، وهو التحفة الأثيرة التي يسعى الجميع إلى اقتنائها من دون أن يعرف قيمتها أحد.
المهمّ أنّ ماضي جاء إلى عمّان، مصطحباً معه نساءه الممتلئات والمسترخيات على كراسٍ وكنبات، أو متّكئات على طاولة بأكواعها الحادة (هل نجرؤ على سؤاله لماذا ممتلئات؟). جدران المعرض الذي يقع في جبل عمّان، تطالع الزائر الأردنيّ، الفطريّ في الفنّ، بمزيج من العناصر البصريّة والأسلوبيّة التي لم يرها قبلاً. العين الأردنيّة غير المدرّبة، تحتفي بمشهد فنيّ بائس محاصر بعشرات المعارض المحسوبة على المدرسة التجريديّة، أو على الفن الفطري الطالع من الكرّاسات المدرسيّة. هكذا «نستمتع» عادةً بزهور الأردن، أو خزنة البتراء، أو تلك المزهريات التي لا تنتهي. وفجأةً يطالعك حسين ماضي، أحد روّاد الحركة التشكيليّة العربيّة، بمقترحات ومشاهد وتراكيب ومفردات تهزّ ركود الذائقة والوعي والثقافة السائدة.
يرى ماضي أنّ هذا التوصيف لا يقتصر على الأردن: «هناك تخلّف في كل البلاد العربية في الثقافة الفنيّة». ورغم حراك المشهد اللبناني، لأنّ اللبنانيّين «بدأوا بالتعاطي مع الفن مبكراً»، وظهرت مدارس فنيّة في مصر والعراق، فضلاً عن المغرب العربي، فإنّ المشهد ما زال مأساويّاً على حد تعبير المعلّم. نحاول أن نجرّه إلى منطقته الأثيرة، هناك حيث الافتتان بسرّة النساء المكتنزات، وسرّ الخطوط الحادة التي تُرسَم بها أفخاذ أولئك النساء وصدورهنّ. النساء هنا متأنّقات كما يشتهي الرجال. لوحة أخرى لخيول تتناسل بالأكريليك على القماش، إضافةً إلى لوحات أُنجزت في الثمانينيّات من القرن الماضي. أمّا الرجل، فيظهر مرّتين فقط: الأولى يختفي نصفه وراء امرأة تحمل تفّاحة، والثانيّة في مشهد فولكلوري بالطربوش والشروال يقطف الرمّان (الرمز المكرّر في لوحاته) مع امرأته.
مشهد حميم يحوّلنا إلى متلصّصين، ونخاف أن نتحرّك خوفاً من تخريب عناصره
لوحات ماضي (1938) كأنها خاضعة لتخطيطات وحسابات دقيقة. ألا يرى أنّ الفن «لغة أشكال وعلم حسابي وعلم مسافات... كل ما نراه يتكوّن من مسافات على الفنان أن يقيسها ويحوَّلها إلى لوحة». نحاول الخوض مع حسين ماضي في هذه المقاربة للفن، إلّا أنّه يُخرجنا مرةً أخرى إلى المشهد العربيّ. هي أيضاً فرصة نادرة للتلصّص على المعمل الداخلي لفنان من هذا النوع. لكنّ ماضي متشائم من هذا المشهد: «ليس عندي أمل بأن يخرج فنان مختلف حتى سنين طويلة». يرصد ماضي ظاهرة انحسار الريادة: «لنتحدث عن المعاهد الأكاديميّة، فمن يدرّس فيها؟ أليس من المدهش حقاً أن يكون الفن العربي، في معظمه، تقليداً للغرب؟»، ويستدرك أننا نقع هنا أو هناك على «فنان نصف فلتة أحياناً». المشكلة كما يرى ماضي تكمن في غياب «المدارس الفنيّة الأكاديميّة»، ما يدفع الرسّامين إلى تهريب مواهبهم إلى الغرب، كما فعل هو نفسه حين غادر بيروت إلى إيطاليا عام 1963 للدراسة في «أكاديميا دي بيلي أرتي» و«أكاديميا سان جياكومو». حتى هؤلاء، لا يذهب معظمهم للتعلّم، في رأي الفنان، بل «للتسكع في الشوارع بدلاً من التعلّم، ومن يتعلّم يقلّد... إلّا في ما ندر». ويحمل ماضي على موضة رسم الخط العربيّ: «الخط العربي له قواعده وأساسياته، لكن هناك من يلجأ إلى رسمه في لوحة حتى يُصنَّف تحت مسمّيات كبيرة كالتراث والصوفيّة. هؤلاء في النهاية، ليسوا لا خطّاطين ولا رسّامين». بعد الانتهاء من الحديث، يمكن النظر إلى اللوحات مرةً أخرى. ثمة فنانون لا يشبهون لوحاتهم. هناك تشكيليّون يفتعلون التواضع في الألوان الباردة والخلفيّات الهشّة، وأشكال الشخصيات الطويلة السوداء والبعيدة. تنظر مرةً أخرى إلى لوحات ماضي، فتجد أنّ أبرز ما يميّزها هو الوضوح النظيف: لا تعالٍ أو تواضع، فقط خطوط حادة واضحة تقيس المسافة بين ركبة المرأة وقدمها بعناية المفتون. أليس هو من قال إنّ «المرأة فتنة؟». كل شيء في اللوحة يُشعرك بأنك أمام مسرح، حيث لكل عنصر وظيفته. والمشهد، بحكم حميميّته، يُشعرنا بأننا ملتصّصون، نخاف أن نتحرّك خوفاً من تخريب شيء لفرط دقّة عناصره.
يتركنا المعلّم بنصيحة موجّهة إلى الفنانين والنقّاد عموماً «يجب تعويد العين قراءة الأعمال الفنيّة. وفي غياب مَن يتحمّل مسؤوليّة شرح قيمة هذه الأعمال، لن يصبح لدينا مشهد فني جيّد». لكن ماذا عن عمّان؟ بما أنّ الفن هو «قراءة الطبيعة» كما يقول، فكيف يرى حسين ماضي عمّان؟ «أول ما لفتني في المدينة هو خلوّها من الأبنية العالية، وهذا أمر جيّد. ليس في عمّان نهر أو بحر، لكنها منظّمة، ويمكن مشاهدة اللون الأخضر... هذا ما لا نراه في بيروت».

حتى 4 آب (أغسطس) ـــــ «غاليري نبض» (عمّان) ـــــ للاستعلام: 0096264655081
www.nabadartgallery.com