الرثاء لا يليق بفاروق عبد القادر



إنّه المتمرّد المتعب، والحارس الذي أصرّ على حراسة مدينة اندثرت. حتى بعض محبّيه أرادوا له التدجين، لكنّه لم يقبل هدنة في حربه الدونكيشوتيّة على ثقافة السلطة


وائل عبد الفتاح*
أجّلتُ الكتابة عن فاروق عبد القادر (1939 ــــ 2010) طويلاً. لم تعجبني حفلات الأسى. رأيتها أكثر قسوة من نكرانه، أو التغيّب عن جنازته، أو ملء سرادق العزاء. الأسى مشاعر لا تناسب عبد القادر، الحارس الذي أصرّ على حراسة مدينة اندثرت. لا تليق بفاروق جائزة مهينة، ولا وداعٌ يشبه وداع رجل عجوز تخلت عنه العائلة والدولة وكل مؤسسة رسمية. لماذا يريد عشاق الأسى أن تسير الدولة في جنازة عبد القادر، أو يخرج موظف من مكتبه ليبدو موضوعياً وهو يتعامل مع شخص اختار الحياة على شمال المؤسسات. حارسٌ مدينته ذبلت، وجلطة المخ جعلته ينظر باتساع ودهشة إلى الجميع، بلحيته البيضاء الكثيفة التي لم تحوّله الى عجوز رث متهالك، بل إلى متمرد متعب، ذي نظرة قاسية.
قصائد رثائه مؤلمة، أكثر ربما من موته على سرير في مستشفى عسكري، يفخر محبّوه السذّج بأنهم فرشوا سجادة حمراء في تمشيته الأخيرة إلى القبر. وحدته مرعبة كانت، لكنّه اختارها بطريقة تختلف عن ألبير قصيري، وحسن سليمان، وكلاهما سار إلى موته وحيداً، من دون طقوس التدجين بعد الموت.
الجميع، بمن فيهم محبّوه ومخلصوه ومن يرونه نبياً في زمن خطأ، أرادوا لفاروق التدجين، كأنهم استكثروا عليه وحدته التي لم تكن فقط بسبب كراهيته للمؤسسات والرخاوة في مواجهتها، بل هروباً من الاستسلام لضعف آخر في مكان آخر. يهرب فاروق من الضعف إلى التمرد، وبالتحديد حافته المدببة بالرقة المغلّفة بالعدوانية، دفاعاً عن هشاشة محببة، يرفض الاعتراف بها.
ماذا كان سيكسب إذا عرف أنّ الدولة منحته جائزة، لتبدو عطوفة مع من حاصرتهم وأغلقت عليهم سبل العمل الكريم؟ هذه مشاعر رخوة لا تعرف قيمة الرجل الذي تحزن عليه. فاروق اختار طريقة عزلته، وخطّط لحرب قصيرة المدى، أبطالها جبابرة لكن في السوق المحلي.
نظرتُ طويلاً إلى صورته الأخيرة، ماذا كان يدهشه إلى هذه الدرجة المفرطة؟ العين مفتوحة على اتساعها، لتقاوم الضعف وتحاول رؤية أشياء لا تراها بسهولة. فاروق اختار أن يكون رمزاً لمعركة واحدة: الفساد الثقافي. كل معرفته وظّفها في هذا الاتجاه. لم يكن النقد مهماً ولا مدارس الأدب، إلا بكونها أسلحةً في حرب ضد الفساد المكشوف والعلني.
ابن جيل تطارده السياسة، يحبّ عبد الناصر ويلعنه، ساخر وخجول رغم صورته كجندي لاذع في خندق أزمنة غابرة. دقيق ورقيق، اختار ثوب المقاتل، المتمرد الدائم القريب من رهبنة تعزله عن الزمن، عاش في شقة من طراز الخمسينيات، لم ألمح فيها علامة واحدة على سنوات ما بعد الستينيات.
مشواره الأسبوعي من شبرا الى سوق الحميدية، كان محور معارك ومثار نميمة: ماذا حدث في جلسة فاروق عبد القادر؟ هل دخل دوامة الاكتئاب؟ سيرته سيرة محارب، لا أحد يعرف عنه إلا تفاصيل معاركه، أو جولات حزن تنتابه فجأة، ويحار الجميع في أسبابها. يهبط كل يوم أحد إلى قلب المدينة ليجمع الحكايات، ويثير من حوله الغبار، من دون أن يلمس أحد شيئاً من حكاياته الداخلية وهزائمه الشخصية.

ابن جيل تطارده السياسة، يحبّ عبد الناصر ويلعنه
اكتشفتُ عندما حاورته حكايات عن حياته، من تخرّجه من قسم علم النفس في «جامعة عين شمس»، وحرمانه العمل الأكاديمي بسبب تقارير البوليس السياسي، ثم اضطراره إلى العمل في صحيفة في مكة، إلى أن حدث الانفصال بين مصر وسوريا، وتم ترحيل المصريين من السعودية، وعودته إلى القاهرة وعمله في مصلحة الاستعلامات، ثم سفره إلى الدوحة وعمله في قصر الأمير مترجماً. وهناك رأى آخر سلالة الجواسيس من نوعية «لورانس العرب».
كانت لديه حكايات تروي تاريخ المسرح من الكواليس، اتفقنا على الثرثرة حولها... اتفاق لم يتم. كما لم تتم إقامة الجسور مع أجيال اقتحمت مقهى سوق الحميدية الذي كان عبد القادر زبونه الوحيد تقريباً. لم تقم الجسور لأنّ هناك شيئاً ثقيلاً على كتف عبد القادر. هذا الشيء ليس المريدين عشّاق الأسى، ولا حصار موظفي الدولة. ربما كان هذا الشيء الذي ينظر إليه بكل تلك الدهشة مرتدياً بيجامة الستينيات، وليس هناك على وجهه علامة أسى واحدة. ربما كانت كلّها علامات ذهول.
* كاتب من أسرة «الأخبار»