منذ إعادة انتخاب الرئيس عمر البشير والإعلاميون يعانون الأمرّين من «الرقابة القبلية» التي تحذف المقالات، وتصادر المطبوعات... حتى وصلت الأمور إلى أحكام بالسجن لم تشهدها البلاد منذ عقود!
جمانة فرحات
في حادثة هي الثالثة من نوعها خلال ثمانية عقود، أصدرت محكمة سودانية، الأسبوع الماضي، حكماً بسجن ثلاثة صحافيين في جريدة «رأي الشعب»، الناطقة بلسان «حزب المؤتمر الشعبي». وبذلك، تستكمل السلطات السودانية حملتها على الصحف، التي بدأتها مع انتهاء الانتخابات في نيسان (أبريل) الماضي. وقضت الأحكام بسجن نائب رئيس تحرير صحيفة «رأي الشعب» أبو ذر علي الأمين خمس سنوات. وكانت صوَر قد نُشرت للأمين تظهر تعرّضه للتعذيب والصعق بالكهرباء. كذلك، حُكم على رئيس القسم السياسي طاهر أبو جوهرة، والمحرر العام أشرف عبد العزيز، بالسجن سنتين، فيما صدر حكم ببراءة الصحافي رمضان محجوب.
وجاءت أحكام السجن مفاجئة، بعد توقّع الإفراج عن الصحافيين الثلاثة وتسوية قضيتهم، عقب إطلاق سراح زعيم «حزب المؤتمر الشعبي»، حسن الترابي.
واتهمت المحكمة الصحافيين الثلاثة بـ «زعزعة استقرار النظام الدستوري». كذلك، اتهم الأمين بـ«الإساءة إلى الرئيس السوداني، عمر البشير، وتخريب علاقات السودان الخارجية»، بعد نشرة مقالة بعنوان «انتخابات فوز علي عثمان لا البشير» في التاسع من أيار (مايو) 2010.
وأثارت أحكام السجن حملة تنديد واسعة داخلياً، وخصوصاً أن السودان لم يعتَدْ ـــــ رغم الانقلابات والأزمات التي عايشها ـــــ التعرّض للصحافيين والصحافة كما يحصل الآن.
كل ما سبق دفع المحامي أبو بكر عبد الرازق، إلى التذكير بأنّ الأحكام الجديدة تعدّ «المرة الثالثة التي يحكم فيها بسجن صحافي سوداني بواسطة المحاكم في قضايا النشر». فيما كتب الصحافي فيصل محمد صالح مقالةً بعنوان «الفضيحة»، لفت فيها إلى أنه منذ عام 1922، أي عهد الاستعمار البريطاني للسودان، «لم يصدر أيّ حكم بسجن صحافي... إلّا خلال العامين الماضيين».
وسخر صالح من قرار المحكمة واعتباراته السياسية قائلاً «هنيئاً لمن أراد دخول التاريخ من أوسع أبوابه، فقد خلّد اسمه مع السلطات الاستعمارية».
بدوره، شدّد الصحافي نور الدين مدني، في مقالة «لسوانا ولنا» على أهمية معالجة قضايا النشر عبر استعمال حق الرد، مطالباً البشير «بقرار سيادي» يعفو عن الصحافيين، وبالسماح لصحيفة «رأي الشعب» بمعاودة الصدور.
إلا أنّ هذه الدعوة يصعب أن تصل إلى مسامع السلطات السودانية، وخصوصاً أنّ المقالين الأخيرين منعت نشرهما في النسخة الورقية «الرقابة القبلية»، وهو الاسم الذي يطلقه الصحافيّون على الرقابة.
في ظل هذه التطورات، باتت عبارة «منعته الرقابة الأمنية من النشر» خبراً يومياً يغطّي الصحف السودانية. وأصبحت زيارات عناصر أمنية مكاتب الصحف جزءاً من الروتين اليومي. ويفرض هؤلاء رقابة على المواد، فيحذفون كل ما يرتبط بمواضيع الانفصال والمسائل الأمنية في جنوب السودان. والمعروف أن هذه المواضيع تمثّل محور الحياة السياسية السودانية، مع اقتراب موعد الاستفتاء الشعبي على تقرير مصير الجنوب.
وفيما ترفض بعض الصحف الصدور إذا حذفت الرقابة بعض مواضيعها، ومنها على سبيل المثال صحيفة «الميدان»، التابعة لـ«الحزب الشيوعي السوداني»، يبقى الإنترنت منفذاً تستطيع من خلاله الصحف تمرير رسائلها إلى قرّائها وإن بشكلٍ منقوص، بما أن الإنترنت غير منتشر انتشاراً واسعاً داخل السودان.
ومن لم تردعه «الرقابة القبلية» عن نشر ما يتعارض مع توجّهات السلطات أو الاحتجاب الموقّت، كان خيار الإقفال التام يقف له بالمرصاد.

مثّل الإنترنت منفذاً استطاعت من خلاله الصحف تمرير رسائلها
هكذا، لم تمنع صلة القربى ببن البشير وخاله الطيب مصطفى من إغلاق صحيفة «الانتباهة»، التي يرأس مجلس إدارتها وتحريرها مصطفى، بعد اتهامها «بتجاوز نصوص الدستور بإثارة الكراهية والعصبية والعنصرية». وامتد الإغلاق القسري ليطاول كل من صحيفتَي «التيار» و«الأحداث» قبل أن يُسمح لهما بمعاودة الصدور.
والحملة التي تتعرّض لها المنابر الإعلامية تندرج ضمن سلسلة من الممارسات التي أعادتها السلطات السودانية إلى الواجهة، تحديداً منذ إعادة انتخاب البشير .
هذه الأوضاع دفعت «منظمة العفو الدولية» إلى إصدار تقرير بعنوان «عملاء الخوف: الانتهاكات المؤسسية لحقوق الإنسان»، رأت فيه أنّ «جهاز الأمن السوداني يحكم السودان بالخوف».
وأوضح التقرير أنّ «الاعتداء الممتدّ والمتعدد الأوجه على الشعب السوداني على أيدي أجهزة الأمن، ترك منتقدي الحكومة في حالة خوف دائم من الاعتقال والمضايقة، أو مما هو أسوأ». وربط بين بلوغ الاعتقالات ذروتها والتوترات السياسية في البلاد، ليخلص إلى المطالبة بضرورة تعديل قانون الأمن الوطني، والتحقيق في الانتهاكات لأنه «من دون هذه التغييرات، سيظل عملاء جهاز الأمن السوداني تجسيداً حياً لعملاء الخوف».


تعذيب وحشي

بعد أسبوع على اعتقاله (15 أيار/ مايو الماضي)، نشرت مواقع إلكترونية عدّة صوراً للصحافي أبو ذر علي الأمين (الصورة) تظهر تعرّضه للتعذيب على أيدي عناصر جهاز الأمن السوداني. واستغل الأمين زيارات عائلته له، ليروي بعض ما تعرّض له إلى جانب زميله في صحيفة (رأي الشعب) طاهر أبو جوهرة، وسط مطالبات من «شبكة الصحافيين السودانيين» بفتح تحقيق شفّاف وعلني في وقائع التعذيب. وأكّد الأمين تعرّضه مع زميله للضرب «على وجهيهما وبالركلات»، في أولى لحظات الاعتقال.
كذلك، أُجبر الأمين على الوقوف مرفوع اليدين لساعات في الشمس، قبل أن يعمد أحد الضباط إلى صعقه بالكهرباء في مناطق مختلفة من ظهره، ثم تعرّض للخنق.