في «المصالح والمصائر ــ صناعة حياة مشتركة»، يصوّر علي حرب الواقع العالمي قائماً كنفق مظلم من الإشكاليات المتراكمة. أسئلة الهويات وعنف الأصوليات حاضرة بقوة، وإلى جانبها أسئلة عن آفاق الرأسماليّة ونكسات الاشتراكيّة في الغرب، والنزعات الماضويّة في العالم العربي. كأنّ البحث عن أرضية مشتركة صار ضرباً من المستحيل
ريتا فرج
تصيب أطروحة علي حرب «المصالح والمصائر ـــــ صناعة حياة مشتركة» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـــــ منشورات الاختلاف) قارئها بصدمة معرفية. ومفاد قوله انّ العالم في حالة انسداد إنساني شامل يتعدّى أزمتي الرأسمالية وتحولاتها، والاشتراكية وفشلها. بمنهجيّة علميّة نقديّة، يعرّي صاحب «تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم» مآزق عصره. يستحضر أبرز العوامل التاريخية المُنتجة لعنف الأصوليات، وأسئلة الهوية، واختناق الاقتصاد العالمي، وعجز البشرية. بدهشة الفيلسوف، يؤكّد حرب في مؤلفه أنَّ وحدة العالم التي تنبّأ بها هيغل تحوّلت إلى نظرية طوباوية يعتريها شكّ العالم في ذاته وفي غده المقبل.
صاغ حرب أفكاره بأسلوب إيقاعي، تتجادل فيها الثنائيات والأضداد، وإن بدت أحياناً نخبوية. يستهل جداله عبر تفكيك بعض المفاهيم مثل الأحادية، والدوغمائية، والذكورية، منتقداً في تفسيراته منابع التقديس في السياسة والدين والإيديولوجيا والمنظومة المجتمعية.
ويتساءل بمَ نفسِّر عودة الدين إلى المسرح بهذه القوة؟ وإلى أين تقودنا المشاريع الأصولية؟ كثيرة هي الإشكاليات التي يُثيرها الكاتب عن الانغلاق الراهن في العالم العربي. عودة الجواب الديني الذي يجتاح بيئاتنا، لم يكن نتاج انفجار السلفيات وأخواتها فقط. الأزمة أزمة واقع مضطرب، تغزوه الماضوية والتخلف البنيوي، وفشل مشروع الحداثة، بعدما خاض رواد النهضة تجاربهم التقدمية، وأصيبوا بنكسة. كما لو أن العرب يبدون ـــــ بحكم ذهنيتهم ـــــ ممانعةً للتحديث وسياقاته.
النقد البنَّاء لمتعلقات الأصولية الإسلامية ـــــ بما تختزنه من معتقد اصطفائي ومذهبية وعنف جهادي والأسلمة الشاملة ـــــ جاء بمثابة معركة معرفية لزعزعة أوهام الأسطرة. الأصولي ـــــ كما يخلص حرب ـــــ يجابه الآخر بقوة الدين المؤدلج والعدواني. «نحن إزاء نسق إيديولوجي عدواني مغلق يقوم على تقديس الأصل وعصمة السلف». لكنّ ذلك لا يعني أنّ الأصولية حكر على ديار الإسلام. فالغرب منتج للأصوليات أيضاً، ما حوّل مجرى التنافس الإيديولوجي إلى «حرب الآلهة والنصوص المقدسة» بين جهادي وإنجيلي.
مآزق العالم كما نقرؤها في «المصالح والمصائر ـــــ صناعة حياة مشتركة» تفرض أسئلة جديدة عن المثقف العربي ودوره. في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات المالية، يُشغل مفكّرونا بتعثرات النهضة. لكنّ العالم الراهن يحتاج إلى نظريات جديدة تتخطى الصدام بين الماضي والحاضر.
يفكّك الذكورية والدوغمائية وينتقد منابع التقديس في السياسة والدين
هذا ما يدعو إليه الكاتب. هنا نسأله: كيف يمكن تجاوز أفكار الإصلاحيين العرب من إسلاميين وقوميين ويساريين الذين جادلوا التراث والعلمانية والحداثة، ما دام العرب لم يكملوا دورتهم الحضارية بعد؟ قبل الحديث عن اجتراح التنظيرات الجديدة، قد يكون من الأجدى البحث عن تحقيق الحد الأدنى من مقومات بناء الدولة الحديثة.
مجتمعاتنا تتحدث كثيراً في السياسة، لكنّها ما زالت تتخبط في واقع مأزوم شديد العداء للتحديث.
صحيح أنّ هناك احتكاراً نخبوياً لصراع الأفكار في الحاضرة العربية الإسلامية، لكنّ هذا التغالب الإيديولوجي يشي بانغلاقات واضحة. فلو أنّنا دول ديموقراطية مستقرة، لما طالبنا بفسحة من الحرية قائمة على التعددية والمشاركة في صنع القرار. من هنا تأتي أهمية الإجابة عن السؤال الإشكالي الذي طرحه شكيب إرسلان «لماذا تقدم الغرب وتأخّر المسلمون؟» قبل معالجة أزمات العالم المعاصر في الاقتصاد وإدارة القضايا المستجدة.
الاصطفاء العقائدي، والتهويم اللاهوتي، والتشبيح الثوري. عبر ثلاثيته هذه، يقرأ حرب مأزق الثورة الإسلامية في إيران، من دون أن يتخلى ولو لحظة عن منهجه النقدي.
وبرأينا، فإنَّ الالتباس بين الديني والسياسي، والتجاذب بين ولاية الفقيه والمجتمع الإيراني وما عرفه من حداثة زمن الشاه، ولدّت أوهام هوية على حدّ تعبير المفكّر الإيراني داريوش شايغان. التباس أدّى إلى تحويل الثورة الباحثة عن دور إقليمي إلى نموذج «انقلابي ثأري» كما يشير حرب.
السؤال الأساسي الذي يتحرّى عنه الكاتب هو: ما الذي أفشل الثورات في العالم، بدءاً من ثورة التنويريين في فرنسا مروراً بالثورة البلشفية، وصولاً إلى الانقلابات والثورات العكسية في الشرق؟ كأن العالم كلُّه يعيش في نفق مظلم لأنّه لم يفلح في تحقيق الحد الأدنى من الشراكة الإنسانية.
خاضت الأنظمة الديموقراطية الغربية حروبها ضد ما سمّاه الكاتب بالديكتاتورية، وانتصرت على «الثالوث التوتاليتاري» (النازية والفاشية والاتحاد السوفياتي).
لكن ها هي اليوم تعيش فوضاها السياسية أيضاً، أقلّه على مستوى إدارة الأزمات العالمية. فما إن بشّر فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ، حتى بدأت التحديات المتفاقمة أمام القطبية الأحادية: تدهور الأمن العالمي، وتراجع الديموقراطية، وصولاً إلى الأزمة المالية العابرة للقوميات والأديان.
كلّ ذلك على إيقاع فوران الإثنيات الرافضة لأنماط العولمة. فهل نحن أمام عجز عالمي في مواجهة التحديات الراهنة؟ لا نملك جواباً عن السيناريو المتوقع.
النظريات السياسية والفلسفية لحقبة ما بعد سقوط جدار برلين، تبدي الكثير من العجز المعرفي. ربما لأنّ الواقع الراهن كثيف التحوّل، أو ربما لأن النظام العالمي قام على أشلاء التخلف والتفاوت الاقتصادي الحاد بين الشمال والجنوب.
فأين أصبحت رهانات التحديث في العالم العربي؟ أبواب المجال العربي موصدة، بفعل معطيات مختلفة، يبحث عنها حرب بنمط نقدي لم يفارق أطروحته منذ سطورها الأولى. الإسلاميون ينادون بشعار الإسلام هو الحل.
الليبراليون من جهتهم يطالبون بتحديث البنى المجتمعية بصيغة غربية معدّلة، فيما التراجع الحضاري عندنا، ديني وسياسي ومجتمعي. فهل نحن في عصرنا أحوج إلى ابن خلدون يقارب واقعنا؟
خلاصة أطروحة حرب أنّ العالم في مأزق. مأزق يطال الاقتصاد والبيئة والأمن العالمي والتنمية والديموقراطية والإدارة الدولية. والإشكالية المطروحة على الانتليجنسيا العربية هي عن قدرة هذه المراجعات الفكريّة التي يدعو إليها حرب على صناعة غد أفضل في عالم مضطرب.