في روايتها الأخيرة «نسر بجناح وحيد» (الدار العربيّة للعلوم ناشرون)، ترسم القاصة والروائية السوريّة صوراً لشخصيات مسخها الحاضر والبطالة المقنّعة. بطلها طبيب ينتهي قاتلاً
حسين السكاف
كالنسر جبان، يعتاش على الجِيَف لأنّه لا يعرف الصيد... على هذا الشكل، ترسم هيفاء بيطار صورة بطل روايتها الجديدة «نسر بجناح وحيد» (الدار العربية للعلوم ناشرون). صفات تصبغها على شخصيّة الطبيب كريم: لا خيال لهذا المخلوق ولا نظرة حادة يمتلكها... وحدها السوداوية والسلبية وكثرة التباكي تميّزه. هو، طبيب جرّاح، مدمن على الحبوب المنومة! موظف بارع في التملص من ساعات دوامه الرسمي... عشيق يتقاضى ثمن جهوده المبذولة على سرير النزوات. العوز حوَّله إلى إنسان حقود. الإفلاس المديد شوّه روحه وغرّبها عن ذاتها. وفوق كل هذا، هو متشائم يتمنى الموت: «أيامي متشابهة إلى حد فظيع. والله صرت أشتهي الموت. حالتي النفسية متدهورة جداً. فراغ قاتل. أحاول خلق آمال أعرف سلفاً أنها زائفة. لا أحس بشخصيتي ولا حضوري، فراغ وبؤس وشباب يضيع، ويأس وعراك يومي مع الساعات...». هذه الصور الخانقة ببؤسها تعجّ بها صفحات الرواية. كأنّنا بصاحبة «ضجيج الجسد» قررت الانتقام من القارئ عن طريق هذا الطبيب الشاب ويومياته. الرواية أخذت على عاتقها سرد كل السلبيات التي يعاني منها مجتمعها دفعة واحدة ومن دون هوادة. تجاهلت بذلك أنّ هناك قارئاً بحاجة إلى فسحة يتأمل من خلالها السر الكامن وراء استمرار حياة المواطن البسيط رغم المرارة.
الرواية هي إذاً يوميّات الطبيب كريم، ابن أستاذ الرياضيات الذي كافح ليعلم ابنه وابنته، ثمّ ليموت في العام الدراسي الذي تخرج فيه ابنه من كلية الطب. كأنّ الرواية كتبت على شكل يوميات تقليدية يمارسها أغلب البشر ممن يكتبون مذكراتهم. الكثير من الجمل يشوبها ضعف التعبير والعديد من الكلمات المتلاصقة، مع غياب واضح لعلامات الوقف. يخيّل للقارئ أنّ الرواية مخطوطة لم تخضع للتنقيح بعد، أو مشروع أولي لسيناريو مسلسل تلفزيوني تجاري.
مشروع أوّلي لسيناريو مسلسل تلفزيوني تجاري
العديد من شخوص الرواية تظهر لمرة واحدة... تنفث سمها المرسوم على شكل إحباط ومعاناة خانقة بوجه القارئ، ثم تختفي من دون رجعة. مشفى «الرخام» الحكومي حيث يعمل «الدكتور كريم» يغصّ بالموظفين والموظفات الذين لا عمل لهم سوى قضاء ساعات الدوام الرسمي. بطالة مقنّعة استغلتها الكاتبة من خلال تحويل عين الدكتور كريم إلى عدسة كاميرا تصور أشخاص «حلقة القهوة». تعرض لنا هيفاء بيطار نماذج منتقاة من مجتمع الرواية، مطلّقات، وشابات، وعوانس وأرامل، وزوجات لا يكفيهن وعائلتهن الراتب. عبارة تتردد على شفاه هؤلاء جميعاً «الدنيا بنت كلب»... لا أحد من شخوص الرواية الذين مسخهم الحاضر، يمتلك فسحة فرح وأمل. نقرأ البطل ينظر إلى طفلة في الخامسة «تلبس مريلة مدرسة... فيتساءل: متى ستعاني هذه الصغيرة من انهيار المقدسات، وخاصة العمل؟ متى سترجع إلى البيت وقد خبا اللمعان في عينيها الرائعتين؟ لمن ستشكو همومها عن البطالة وشحّ الراتب؟ (...) هل يعقل أن تبيع نفسها ذات يوم لرجل غني؟».
هذا الواقع يجعل الطبيب يطلق على عيادته «غرفة التحنيط». لا زبائن يراجعونه، والملل يدفعه أحياناً إلى ممارسة العادة السرية في عيادته، أو ممارسة الجنس مع مستخدمة قبيحة تعمل في مكتب تجاري مجاور. هنا يبدأ التفكير: «كنت أفكر أن أحسّن دخل العيادة عن طريق الدعارة، ماذا لو أجّرت العيادة لعشاق يبحثون عن غرفة يمارسون فيها الحب؟»، ثم يتمادى في تفكيره أكثر فيفكر تحت تأثير جنون اليأس في أن يمنح «العيادة وظيفة سريّة هي تجارة المخدرات». يتخيّل «أشخاصاً مبهمين يتاجرون بالمخدرات، ويخبئون أكياس البودرة المسمم في عيادتي ريثما يصرفونها، كيف أنني سأجني أموالاً طائلة من مجرد كوني وسيطاً».
ولكن، لا بد لنقطة تحول من أن تنقذ بطل الرواية من سأمه وملله. يعمد إلى استخدام طريقة شائعة بين الأطباء ـــــ كما تقول الرواية ـــــ تكمن في إيهام المريض بأنه يحتاج إلى عملية جراحية. استخدم الطبيب البائس الحيلة على صبي في العاشرة، فمات الطفل تحت تأثير المخدر. هنا تتحول حياة البطل إلى كابوس يومي. وصار يحنّ إلى ماضيه قبل أن يغدو قاتلاً: «هل كان يخطر لأبوقراط أن يصل وضع الطب إلى هذا الدرك من الانحطاط؟» في «نسر بجناح واحد»، تعمّدت هيفاء بيطار عفن الواقع، إلا أنّ كمية العفن المطروحة قد تفوق قدرة القارئ، الذي لم يقترف ذنباً، على الاحتمال!