في الحلقة الأوّلى من حواريّته التي عرّبها هاشم صالح (دار الطليعة)، يستأنف المفكّر الجزائري مشروعه الأثير في رصد المعرفة بالإسلام في الغرب، والفصل بين الدينيّ والسياسيّ، وصولاً إلى التراث والمرأة. ويقدّم قراءة انثروبولوجية لثالوث: المقدّس والحقيقة والعنف
ريتا فرح
في حواريته التي تتألّف من 20 سؤالاً تحت عنوان «الهوامل والشوامل ـــــ حول الإسلام المعاصر» (دار الطليعة ـــــ ترجمة وتقديم هاشم صالح) الذي استلهمه محمد أركون من كتاب التوحيدي ومسكويه، يقدّم المفكّر العقلاني الجزائري أجوبة عن العديد من التساؤلات الإشكالية، بدءاً من المعرفة العلمية بالإسلام في الغرب، والفصل بين الديني والسياسي، وصولاً إلى ماهيّة التراث ومكانة المرأة.
أركون الذي أمضى 25 عاماً في نقد العقل الإسلامي وما زال، عمل في حواريته على تفكيك أبرز التساؤلات التي تدور حول المصالحة بين الحداثة والإسلام؛ كما لو أنّ التمذهب الإسلامي المتولّد من تاريخ الصدامات والعنف السياسي، يبدي ممانعة أبدية تجاه التحديث. وفي انتظار صدور القسم الثاني المعرّب من حوارية أركون «ألف باء الإسلام» بعدما صار جزؤه الأول بين أيدينا اليوم، لنرَ كيف أجاب الكاتب عن أبرز الأسئلة المتعلقة بالإسلام في الغرب وتمثلاته في السياسة والاجتماع والثقافة. عبر منهجية تفكيكية نقدية، يقدم أركون أجوبة غير معهودة عن أسئلة معهودة، على قاعدة القراءة الانثروبولوجية لثالوث: المقدّس والحقيقة، والعنف... من دون أن ينسى موضعة الظاهرة في مدتها الطويلة كما فعلت مدرسة الحوليات الفرنسية. هل من وجود لمعرفة علمية حقيقية بالإسلام في الغرب؟ رغم دعوات الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه «الذات عينها كآخر» (1990) إلى الحد من شطحات المخيال، بقيت التصورات الغربية عن الإسلام متأثرةً بصور نمطية، استفاض في دراستها، ليس أركون فحسب، بل أيضاً وطبعاً ادوارد سعيد.
يظهر المؤلّف أن القرآن لم يقم تمييزاً أنطولوجياً بين الجنسين
لكنّ حجم الانفصام بين الغرب والإسلام، لجهة الصور النمطية المتبادلة، ليس نتاج صدمة عابرة، بل تستمدّ هذه الصور جذورها من حضورها التاريخي والانطباعي. وجاء التفاوت العلمي والاقتصادي بين عالم الشمال وعالم الجنوب، ليفاقم تأثيراتها. هذا التفاوت الذي عدّه أركون من أهم عوامل التضاد الثقافي عن الآخر «المسلم»، رافقه التنافس اللاهوتي بين الديانات الإبراهيمية الثلات، ما منع تجاوز احتكار الرؤية إلى الله، أي مصادرة التوحيد ومنعه عن الآخر الديني. ويستحضر الكاتب الأسباب التاريخية والبنيوية للتراجع الحضاري في ديار الإسلام، بعد فشل القوميين والليبراليين والاشتراكيين، واستشراء ظاهرة الإسلاموية التي أضفت عليها الثورة الخمينية جرعة جديدة من الانعزال ورفض الحداثة.
«أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» هذا الشعار الذي استخدمه بعضهم للقول بأنّ المسيحية الأوروبية أقامت تمييزاً بين الديني والدنيوي، في مقابل الإسلام الذي لم ينجح في بلورة هذه القطيعة، يشرحه أركون بأسلوب تاريخي مقارن: المسيحية لم تصل إلى تثبيت علمانيتها إلّا بعد ثورات سياسية وعلمية، كرّسها عصر التنوير. وبهذا المعنى، لا يمكن تطبيق ما حدث في الغرب أواخر القرن الثامن عشر، على الإسلام، فهو لم يصل إلى ثورة الفصل بين السيادة العليا والزمني. سؤال مكانة المرأة في القرآن والتراث الإسلامي الذي ألهب المخيال الغربي بمشاهد إسقاطية، لعل آخرها إثارة مسألة الحجاب في فرنسا، لا يمكن الإحاطة بواقعه الراهن رغم الانتصارات التي حققتها النسوية الإسلامية في السياسة والثقافة، بمعزل عن التاريخ والاجتماع والقومية والدين. القرآن الذي ساوى بين المؤمنين والمؤمنات لجهة العبادات، لم يقم تمييزاً أنطولوجياً بين الجنسين، فالنصّ المقدس موجّه الى الاثنين، باستثناء ما يتعلق بالحياة الزوجية. لكن الخطاب الأصولي ـــــ كما يشير الكاتب ـــــ كان أشد وقعاً على المرأة في ظل ثقافة تقليدية ونظام بطريركي، جعلها كائناً لا يستجيب إلّا لحاجيات الرجل. والفرضية الأهم التي توصّل إليها أركون «أنّ تزايد أدلجة المقدس التقليدي لغايات سياسية، أدى إلى تصاعد الخلل الخاص بوضع المرأة على الصعيد الاثنوغرافي والإسلامي».
المفكّر الجزائري الذي كرّس همه المعرفي في مقارعة المسكوت عنه في إسلام النص، وإسلام التاريخ، يحيلنا على عالم التساؤلات الكبرى. وأهمية أطروحته تكمن في أنّها جاءت بسردية علمية تخاطب العقل، وتدفع القارئ إلى متابعة المعهود وغير المعهود، من دون أن يلتقط أنفاسه، بل تجبره على طرح المزيد من الرؤى الفكرية التي تبدأ بـ: كيف ومتى ولماذا.