نحت ليتوغرافي مدعّم بشروح رقميّة ومقاساتحازم سليمان
تسبقنا أعمال التشكيلي اللبناني محمد الرواس (1951) بمسافة محيرة. اجتيازها يتطلب جرأة توازي صنعتها، وخروجها عن أنماط وتأويلات بصرية عدة. أعمال تتجرد من ذلك الشحن العاطفي المباشر الذي باتت تجارب كثيرة تراهن عليه لبناء علاقة مع متلقّيها. تجارب الرواس قطعيّة. يعيد فيها تركيب الحياة بمزاجية دقيقة، ومفردات واقعية تبدو غريبة عن واقعها القديم: الطيور والأسماك والدمى المعدنية والخشبية لا تحيلنا إلى ما هو خارج العمل، بل تؤكد امتثالها لمعناها الجديد، ولفضائها المنضبط بإشارات هندسية وتراكيب وخامات عدة.
تمثّل أعمال الرواس المعروضة في «غاليري آرت سوا» في دبي، حديقة أفكار وحكايا مرئية لـ«بشر وتواريخ وأمكنة». حسها الدرامي لا يستند إلى وقائع غيبية، فالخطوط الهندسية، ومستويات العمق، والأرقام، والفوتوغراف، عناصر تضعنا أمام أعمال تحمل إثباتات حقيقتها. شهية الرواس المفتوحة على الحياة ومنجزات بصرية سابقة، جعلت من توظيفاته لأيقونات وشخصيات معروفة في لوحات كلاسيكية عالمية، تبدو كأنها تحدٍّ للزمن الذي يستحضره بطريقة متناقضة زمنياً، لكنها تنضبط مكانياً وفي حيز جغرافي إحداثي.
لم يعطِ الفنان لمعرضه الذي يحوي 18 عملاً أنجزها بين 2008 و2010 عنواناً محدداً. القصدية هنا جزء من الحرية التي تتسم بها تجارب انقلبت على مفاهيم اللوحة مضموناً وليس شكلاً. تحولت اللوحة إلى مساحة تعبيرية مختلطة، تتآخى على متنها مفردات متناقضة، جمعها الرواس وفق بنائية بصرية تصاعدية تتطلب تعقباً، بدلاً من النظر إليها بشمولية تزيد من فعل التغريب الموجود أصلاً في العمل، وخصوصاً أنّ الرواس لا يوائم الشكل مع وظيفته التقليدية، بقدر تفعيله من قدرة هذا الشكل لتمرير انفعالات خاصة.
المبدع الآتي من رحلة أكاديمية استغرقت 27 عاماً، وتحولات بصرية مغرية («كتاب الرواس»، «دار الساقي»، 2004)، تمثل تجاربه الآن لحظة نقاء كاملة، تتكشّف فيها وجهة نظر خاصة في العمل الفني على مستويين: الدور وأدوات التوصيل. العمل الفني هنا ليس اقتراحاً جمالياً، بقدر ما هو منطقة خلاقة لتحفيزات حسية وعقلية، هدفها الوصول إلى أداء بصري يستوعب أنّ الفن سلسلة غير منقطعة مهما روّجت المزادات الفنية لهذه القطيعة.
الخشب، والأسلاك، والمعدن جميعها عناصر تُغني المشهد، وتزيده تعقيداً وتنوّعاً
في عمله «أمهات بأحمال ثقيلة»، ثمة مسارات يمكن العين المضي فيها لتتبع مستويات العمل هندسياً وميكانيكياً. الفضاء السماوي المقيّد بخطوط مرتبطة بنقاط محددة، والسبر العميق لأرضية اللوحة التي تتخذ أكثر من مستوى بصري، وصولاً إلى الجزء النافر لعربة فيها نسوة مختلفات الهوية. ثمة تأثير قوي ومباشر لمفردات الموضوع في هذه اللوحة وغيرها، مستمدة مباشرة من سلوكيات في الحياة اليومية وفنون مرئية أخرى. قوة التأثير هنا تنبع من وعي مسبق وتخطيط دقيق، في المراحل الأولى لإنجاز العمل الذي لا يخلو من موقف رافض وساخر أحياناً، ومن مشاعر صافية يواريها هذا الفنان في زوايا عدة، لكنها تبدو صارخة في أعمال يلجأ فيها إلى التصويرية.
السيطرة الكاملة على المفردة، والجهوزية المستفزة لا تلغيان التخيل والعاطفة والعفوية في العمل، بل هما استجابة عملية للتحولات الطارئة والأصيلة في الفن، وفق مستويين: تاريخي وراهن. التفاعل يكون مع حساسيات الخامة والمادة في وضعها الطبيعي. الخشب، والأسلاك، والمعدن جميعها عناصر تُغني المشهد، وتزيده تعقيداً وتنوعاً، وتضفي مناخاً من النحت الليتوغرافي المدعم بتصويرية عالية، وشروح رقمية ومقاسات هي ليست ترفاً أو أمراً تزيّنياً بقدر ما هي عناصر تحمل بعداً تفسيرياً ضرورياً.
ويصعب تفسير الحضور النسوي في أعمال الرواس. الغرائزية المباشرة أحياناً لا تحمل نزعة ترويجية، بقدر ما تضعنا أمام بهاء وحشي صادم. الدقة التشخيصية تعطي شعوراً بالمغامرة في وسط رمزي وإيحائي محتشد بالتفاصيل. ثمة تنوع في معنى حضور المرأة في أعمال المعرض كما في سلسلة أعمال «حلم منتصف الخريف»، و«الشتاء»، و«الربيع» و«الصيف». تبدو المرأة في عالم الرواس حالة جدلية شائكة غير مرتهنة لمجرد تأويلات عاطفية. المرأة المقترنة بالدمى، والمقتبسة من لوحات كلاسيكية، الأنثى العارية، والأسطورة، والعاملة، وغيرها من حالات يصعب الخروج منها بنتيجة حتمية.
أعمال المعلّم اللبناني المشبعة بالحكايا تكتسي ثوباً تعبيرياً يتجاوز الأطر المحلية. هذا الاختلاط بين عناصر متناقضة حد التعقيد يقودنا إلى فهم خاص وشمولي لعمل فني بات مساحة لاحتضان جملة اشتباكات ذات أثر مربك. تلك الاشتباكات يقودها الرواس عبر وسائط بصرية، وحسابات دقيقة إلى خصوصية المادة وعلاقتها بالأخرى. الصرامة والعقلانية اللتان تتسم بهما أعماله لا تخفيان القلق والتوتر اللذين تمت السيطرة عليهما، وتفتيتهما إلى شحنات تضيء ثنايا العمل.
عالم محمّد الرواس رحلة قوامها الشغف والحب والرهافة. لوحته التي وصلت اليوم إلى مرحلة متفردة، هي نتاج لعقلية تربط الإنسان، وتعمّق حضوره في المكان والزمان. فنان يقدم قراءات ومحاولات خلق جديدة، هي في المحصلة نتاج هجين لمتناقضات تجتمع في لوحة فنان قطع أشواطاً في رحلة تجاوز الحداثة إلى ما بعدها، منذ معرضه الأول الذي يعود إلى عام 1971.

حتى 6 حزيران (يونيو) الجاري ـــ «غاليري سوا»، دبي ــــ للاستعلام: 0097143408660
www.artsawa.com