بين أبولينير وأراغون وماكس إيرنستكوبنهاغن ــ حسين السكاف
«أرى في مشغلي ما يشبه حديقة خضار بيتية. أدوات الرسم والحفر وغيرها مثل نباتات تلك الحديقة، حيث يمكن الخضار أن تنمو. فكلّ شيء هنا ينبض بالحياة، وأنا، وسط كل هذا، أعمل كبستانيّ». مقولة للتشكيلي الإسباني خوان ميرو (1893 ــــ 1983)، استخلص منها النقاد عنوان المعرض «ميرو... بستاني الفنّ». عنوان يتناسب تماماً مع مسيرة هذا الفنان الملتصقة دوماً بالطبيعة. الفنان الذي كان على صلة وثيقة ودائمة بالوسائل والطرق الطبيعية والبدائية الموغلة في القدم لاستكشاف الحقيقة...
أكثر من 114 عملاً فنياً بين أعمال تركيبية وتماثيل ولوحات مسندية ومنسوجات فنيّة إضافة إلى أعمال سيراميك وبوسترات، استضافها متحف Arken في كوبنهاغن احتفاءً بالذكرى الـ117 لميلاد ميرو.
تحكي الأعمال قصة فنان جدليّ طرح كمّاً هائلاً من الأفكار والخيارات والرؤى التي غالباً ما يتعذر تفسيرها على نحو مقنع، أو تصنيفها ضمن التصنيفات المعروفة... لطالما وقف ميرو بحزم ضد أي نقد أو تفسير يضعه في حيز محدود. رغم أنّ معظم أعماله ينتمي إلى السريالية في تكوينه ودلالاته، إلا أنه في الحقيقة محاكاة شعرية لفلسفة الطبيعة وتأثيراتها على الروح البشرية.
صهر الشعر والرسم كمادّة إبداعيّة واحدة
هكذا، فإن أعماله، في رأي الكثير من النقاد، تعدّ الأكثر مرونة عند التأويل، فلا غرابة في أن نقرأ أو نسمع أكثر من تحليل مختلف لعمل واحد... هل نأخذ لوحة «الأرض المزروعة» مثالاً لذلك؟ المعرض خصّص لتسليط الضوء على العقدين الأخيرين من حياة خوان ميرو، أي منذ عام مطلع الستينيات حتّى وفاته. تلك الفترة مهمة في مسيرة ميرو، إذ شهدت انطلاقة نشاطه النحتي الكثيف الذي أراد من خلاله التمرد على حدود اللوحة المسندية، وتحقيقاً لرغبة عارمة في الذهاب أبعد ممّا يتيحه عالم الرسم. هذه النزعة لم تكن غريبة على ميرو الذي أطلق فكرة «قتل فن الرسم» في العشرينيات. في معرضه «القصر الكبير» الذي أقامه في باريس عام 1974 عرض فيه لوحات محترقة، رسمها، وأضرم بها النار قبل عرضها.
ما أنتجه ميرو خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، خلاصة لمسيرته الفنية، وخصوصاً لناحية اشتغاله على فكرة اتحاد الشعر والرسم. للشعر في حياة التشكيلي الكتالاني تأثيره العظيم على أفكاره ورؤاه. وقْع قصائد لويس أراغون عليه جعله يتبنى في ما بعد فكرة التعبير الأوتوماتيكي، والأفكار السوريالية الأخرى ويوقّع على بيانها الأول عام 1925.
إيمان ميرو بالشعر دفعه خلال العقدين الأخيرين من حياته إلى استعداء القصيدة لتكون حاضرةً في أعماله الفنية. هكذا، أدخل صوراً وعبارات شعريّة على أعماله، ليعزز اعتقاده بتعادل الشعر والرسم وانصهارهما كمادة إبداعية واحدة. حتّى إنه صار يختار لبعض أعماله عناوين غنية بالحس الشعري، إذ عبّر عن الكثير من تأملاته في شكل نصوص وعناوين شعرية مثل «جناح القبّرة المحاطة بزرقة الذهب تصيب قلب شقائق النعمان وهو يغفو في المروج الموشاة بالذهب». لاحقاً، أدخل في أعماله كلمات بأسلوب الخط الذي ابتدعه الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير وصديقه التشكيلي الألماني ماكس إيرنست. في هذا السياق، رسم لوحتين مثيرتين هما «جسد سمرائي التي أحبها يشبه جسد قطتي وقد توشحت بلون أخضر» و«طير يطارد نحلة فيصرعها».
من هنا، نكتشف أنه شُغل خلال تلك المرحلة على مخاطبة عالم مليء بأفكار ورؤى تختلف تماماً عن تلك التي ظهرت في أعماله خلال سنوات الحرب. أعمال تمنح المشاهد فسحة كبيرة من التأمل والدهشة في آن. طيور غريبة متعددة الأشكال، أشجار وحيوانات وحشرات. أشكال تخطيطية للشمس والقمر والنجوم. تكوينات قد تبدو مشوّهة للوهلة الأولى، إلا أنّ المتأمّل فيها سرعان ما يجدها نابضة بالحياة، تماماً كما كان يعيش ويفكر صاحبها. هذا الفنان الذي طالما تصور نفسه «حشرة ذات مجسات، أرفرف بجناحي، فأشعر كأنني انقذف على نحو غامض إلى اكتشافات قصيّة».