ابتداءً من اليوم ولمدة أسبوع، تعرض قناة «الجزيرة» الوثائقية» شريط «سيد درويش» الذي يحمل توقيع المخرج وائل الشركسي. عودة إلى الباعث الحقيقي لما يُعرف اليوم بالموسيقى العربية
محمد خير
منذ توفي قبل تسعين عاماً، يتردّد السؤال: ما الذي كان يمكن أن يضيفه سيد درويش (1892 ـــــ 1923) إلى الموسيقى العربية لو امتد به العمر أكثر؟ فقط 31 عاماً استطاع خلالها أن يكون الرائد والمجدّد والباعث الحقيقي لما يُعرف اليوم بالموسيقى العربية.
يبدو غريباً أنّ هذا الرائد لم تُنتج عنه بلاده سوى فيلم وحيد حمل اسمه وأخرجه أحمد بدرخان عام 1966. المدهش في قلة الاهتمام الدرامي بالشيخ سيد أنّ حياته القصيرة العاصفة حوت جميع عناصر الدراما الناجحة، منذ سمعه مصادفةً الأخوان أمين وسليم عطا الله وهو يغني أثناء عمله في البناء، فاصطحباه معهما إلى الشام وألحقاه بفرقتهما، وعاد معهما إلى مصر ثم الشام مجدداً. هناك تعلّم الشيخ الصغير ـــــ المفصول من المعهد الديني ـــــ العزف على العود وكتابة النوتة وتعرّف إلى فن التواشيح.
ومع تلحينه دور «يا فؤادي ليه بتعشق»، صار اللحن للمرة الأولى تعبيراً عن معاني الكلمات. كان اللحن قبل ذلك مجرد مساحة موسيقية يستعرض فيها المغني قدراته بغضّ النظر عن معنى ما يقول حزناً أو فرحاً. مع انتقال الشيخ سيد إلى القاهرة في 1917، أصرّ مكتشفه الشيخ سلامة حجازي على منح الموسيقيّ الشاب الفرصة تلو الأخرى، حتى حصل له على فرصة تلحين مسرحية «فيروز شاه» مع فرقة جورج أبيض، فأصبح الملحن الأول لمسرحيات فرق نجيب الريحاني ومنيرة المهدية، وعلي الكسّار وأولاد عكاشة. وكان للقائه الشاعر بديع خيري بالغ الأثر في التأثيرات الوطنية والاجتماعية لموسيقى «فنان الشعب». مع سيد درويش، وجد خيري توأماً شاركه أحلام المصريين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ورغبتهم في الاستقلال والتنوير الاجتماعي. تضافرت الرغبتان في أغنيات درويش وخيري. لا نتحدث فقط عن وطنيات مثل «أهو ده اللي صار» و«سالمة يا سلامة» أو «يا عزيز عيني»، أو أغنيات الطوائف الاجتماعية مثل الشيالين «شدّ الحزام»، والصنايعية «الحلوة دي»، بل أيضاً الدفاع عن المرأة المصرية كما في «بنت مصر»، والسخرية من التحجّر الديني والاستعمار والحرب في «اقرأ يا سي قفاعة». أمّا أغنيتهما «قوم يا مصري»، فقد كانت أول معرفة للموسيقى

نقل الأغنية من المناجاة العاطفية إلى تأدية الدور السياسي والاجتماعي
العربية بقالب النشيد، وكان سيد درويش أول من أدخل توزيع الأوركسترا للموسيقى العربية. كان تطويره موضوعياً، فانتقل بالأغنية خارج حاجز الهجر والمناجاة العاطفية إلى تأدية الدور السياسي والاجتماعي. وموسيقياً، كان تطويره للدور الموسيقي والطقطوقة بإدخاله التعبير الموسيقي فيهما، فضلاً عن تأسيسه النشيد العربي والديالوغ المسرحي وإبداعه في الأوبريت. لم تكن عبقريته في الريادة والسبق فحسب، بل كان لبساطة ألحانه الأثر في تخطّيها الزمن. وتبقى أهمية تلك الألحان أنه يمكن استيعابها في سياق سياسي واجتماعي بالقدر نفسه الذي يمكن استيعابها كغنائيات منفصلة موضوعياً أو موسيقياً. مثلاً، «بلح زغلول»، لحّنها الشيخ ليغنّيها المصريّون بعد منع الإنكليز ذكر اسم قائد ثورة 1919 المنفيّ سعد زغلول، فكانوا يتغنّون باسمه في اللحن الشهير كأنهم يغنّون للتمر. أما نشيد «بلادي بلادي» الذي كتبه الشيخ يونس القاضي، فلحّنه الشيخ سيد وحُفّظ لطلاب المدارس كي يستقبلوا به الزعيم العائد من منفاه. وحين وصل الزعيم إلى ميناء الاسكندرية، سمع النشيد فسأل عن صاحبه الذي لم يحضر الاحتفال، إذ توفّي سيد درويش فجر اليوم نفسه 10 أيلول (سبتمبر) 1923، تاركًا أكثر من 400 لحن مختلف، وثلاثين رواية مسرحية، ومنجزاً موسيقياً يتعلّم منه الناس يومياً.


ابتداءً من اليوم 21:30 على «الجزيرة الوثائقية»