مراسل «الجزيرة» وتجربة «أسطول الحرية»ليال حداد
لم ينم عباس ناصر بعد، وبالكاد رأى طفلَيه: لين (5 سنوات) كانت غاضبة بسبب غيابه، أمّا جاد (سنتَان)، فكان نائماً عند وصول والده من فلسطين المحتلة إلى لبنان. في مكتب «الجزيرة» في الحمرا (بيروت)، جلس مراسل القناة القطرية، وحوله مجموعة من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة. الجميع يريد التفاصيل، أدقّ التفاصيل: كيف واجهتَ الإسرائيليّين؟ هل اعتدوا عليكَ جسدياً؟ ماذا سألوكَ في التحقيقات؟ هل رأيتَ جثث الشهداء؟ من كان معكَ في الزنزانة؟
يبتسم الإعلامي اللبناني عند كل سؤال، ولا يملّ من تكرار الأجوبة، ففي غضون يومَين تحوّل من مراسل «الجزيرة» في لبنان، إلى الحدث الإعلامي الأبرز.
من السفينة، إلى أسدود والتحقيق المتعِب، ثمّ إلى سجن إيلا في منطقة بئر السبع الفلسطينية وإغرائه لتوقيع أوراق تثبت أنه دخل بطريقة غير شرعية إلى فلسطين المحتلة، وصولاً إلى المطار والتعذيب النفسي، فمنطقة الناقورة الحدودية، لم ينسَ ناصر أيّ تفصيل. ورغم التعب والخطر، «كان عندي قناعة راسخة بأنني سأعود إلى لبنان». وماذا عن الخوف؟ «في لحظة معيّنة نسيت الخوف. إنّه شعور يصعب وصفه، ولكن في عزّ المواجهة مع الإسرائيليين، يشعر الإنسان بأنّه أكبر من نفسه». ورغم أنّه كان الراكب الوحيد على السفينة الذي لا يحمل جواز سفر أجنبياً «خاف الإسرائيليون منّي أكثر من الجميع، لأنهم يدركون أن للأجانب سفارات تعيدهم إلى بلادهم، أمّا اللبنانيون، فلهم صواريخ توفّر عودتهم السليمة. باختصار، اللبناني تحوّل إلى عبء على الإسرائيليّين»!
يقاطعنا الهاتف مراراً، أصدقاء وزملاء وأقرباء يطمئنون إليه، ويسألون عن الرحلة وعن التحقيقات، ومواجهة الإسرائيليّين. وفجأةً، يدخل شاب بيد مضمّدة، ويغنّي «هدّي يا بحر هدّي طوّلنا بغيبتنا...» إنّه المصوّر عصام زعتر، الذي كان رفيق ناصر في السفينة. يروي زعتر، كيف تمحورت معظم أسئلة المحقّقين الإسرائيليين حول عباس ناصر، «لم يسألوني شيئاً عن نفسي، بل بدّلوا ثمانية محقّقين وكانوا جميعهم يسألون عن عباس، كم ولداً لديه؟ متى بدأ عمله في «المنار»؟ كيف انتقل إلى قناة «الجزيرة»...». ويضيف بانفعال «قالوا لي نطلق سراحك الآن، إن أخبرتنا أين يخبّئ عباس ناصر حاسوبه». تبدو ملامح الدهشة واضحة على وجه ناصر، فهو يسمع هذه التفاصيل للمرة الأولى.
وبعيداً عن الأجواء العسكرية، والمواجهة التي كرّر المراسل الثلاثيني تفاصيلها أكثر من مرة منذ مساء أول من أمس، يعود إلى اللحظات الإنسانية، إلى شعوره بالشوق إلى ولدَيه، وإصراره على عدم الاستسلام. ثمّ تأتي العلاقة مع فلسطين، «أخبرت الضابط الإسرائيلي أنّه لا يشرّفني أن أكون بحضرته ولا أن آتي إليه، بل إنّ الشرف هو بالحضور إلى فلسطين». وفي ظلّ كل هذه المواقف، لم ينسَ عمله كإعلامي، «حالما دخل الإسرائيليون سفينتنا، كان همّي الوحيد أنّ أتمكّن من الاتصال بـ«الجزيرة»». لكنّ الحظ لم يحالفه لأكثر من ثوانٍ، إذ انقضّ عليه جنود الاحتلال وأخذوا منه الهاتف.
ومع عودة عباس ناصر إلى لبنان، اكتشف حجم التغطية الإعلامية التي رافقت المجزرة الإسرائيلية. ولا يرى أن في الأمر مبالغة، «حجم الحدث كبير جداً. إسرائيل واجهت الأمم المتحدة، واعتدت على أسطول فيه ركّاب من مختلف الدول». لكنّه يعترف بأنّ «هذا الاهتمام الإعلامي العالمي، سببه وجود ركّاب أجانب على متن السفن، الأمر مؤسف، لكنّه الواقع». وهل حقاً غطّت أخبار الأسطول على حصار غزّة؟ «لا يمكن النظر إلى الأمور من هذه الزاوية، فموضوع الأسطول هو جزء من حصار غزة، والعالم كان بحاجة إلى حدث جديد يذكّره بما يحصل في القطاع».
وعند الحديث عن تسليط الضوء على الأوضاع في غزة، يؤكّد ناصر أنّ الناشطين الأوروبيين والغربيين على متن أسطول الحرية، كانوا من أكثر المتحمّسين لمواجهة الإسرائيليّين، «لا تزال صورة الأميركي بول لارودي ماثلة في ذهني، حين دخل جنود الاحتلال إلى السفينة وبدأوا بضربه، كان يقول لهم اضربوني بعد، ويقاوم بطريقة غريبة». لكنّه يدرك جيداً أن الخلفيات الإيديولوجية بينه وبين الأوروبيين كانت مختلفة تماماً «أنا مشكلتي وجودية مع إسرائيل التي سرقت أرض فلسطين، أمّا الأوروبيون، فيعترفون بإسرائيل. مشكلتهم الوحيدة أن الدولة العبرية ديكتاتورية ولا تحترم حقوق الفلسطينيين، ومشكلتهم مع حكوماتهم في أنها تدعم إسرائيل. مثلاً كانوا يشكرون الجنود الذين كانوا ألطف من غيرهم، في وقت كان هذا الأمر مستحيلاً عليّ، وعلى قسم من الركاب العرب».

يستقبل برنامح «حديث الساعة» عباس ناصر وحسين شكر الليلة 21:30 على «المنار»


zoom

أندريه ليس «جهادياً»يذكر أبو خليل جيداً تفاصيل الهجوم على السفينة الرئيسية في «أسطول الحرية»، «عند الساعة الرابعة وخمس دقائق، بدأت أرى السفن المطاطية والقوارب تحاصر السفينة، وبعد أقل من عشر دقائق، حاولوا النزول إلى سطح سفينتنا لقطع البث الإعلامي والسيطرة على غرفة القيادة، بمواكبة طائرة هليكوبتر، لكن الإنزال الأول فشل». مع بدء الهجوم، حاول أبو خليل الاتصال بقناة «الجزيرة» لإخبارهم بما يحصل، لكن الإسرائيليين كانوا يشوِّشون على الأقمار الصناعية. لحظات وعادت مروحية ثانية، وبدأ الجنود يرمون قنابل غازية وأخرى صوتية، «تسلّح ركاب السفينة، وخصوصاً الأتراك، بالعصيّ، وقساطل المياه... وبدأت الاشتباكات على سطح السفينة». غير أن مهمة الإسرائيليين لم تكن سهلة أبداً «قاوم الأتراك، إلى جانب الحزائريين واليمنيين والكويتيين وغيرهم، قتالاً شرساً وجرحوا ثلاثة جنود، جراحاً خطرة». ولكن أبو خليل لم يدرك خطورة الوضع إلا عندما رأى شهيدَين تركيَّين يسقطان من على سطح السفينة «الأول أصيب بطلقة نارية في رأسه، والثاني بطلقة في رقبته». لم يكن المصور اللبناني مستعداً للتضحية بحياته، «أنا لست جهادياً، أنا إعلامي أقوم بواجبي، ولا أريد الموت، فأثناء تغطيتي لعدوان تموز، وأحداث السابع من أيار (مايو) في لبنان، اكتشفت أن هناك حدوداً للمجازفة». انطلاقاً من هذه القناعة، وعندما بدأ الشهداء بالتساقط، أطفأ أبو خليل كاميرته، وقرّر تفادي المواجهة المباشرة، وبالتالي الموت.
ومن السفينة إلى أسدود، خضع المصوّر الشاب لتحقيق باللغة العربية والإنكليزية، «سألوني عن نوع الأسلحة التي كانت بحوزتنا في السفينة». يضحك عند تذكّره هذا الاتهام، «أخبرتهم أننا لم نكن نملك أسلحة، وأنهم هم القراصنة المسلّحون الذين اختطفونا من المياه الدولية، وبالتالي نحن رهائن عندهم».