عن «العم بونمي» وأخوته: عنف ولوعة وشعر وأسطورة زياد عبد الله
أشباح الماضي تتجول في تايلاند، وأب عائد بعد غياب طويل إلى تشونغ كوينغ، والقتل المجاني وبالجملة في اليابان، حيث نتعقب امرأتين كوريتين، الأولى خادمة سيكون انتحارها فعل انتقام، والثانية تتوق لأن تصبح شاعرة في خريف العمر... تلك لمحات عابرة لما حمله إلينا «التنين» الآسيوي. فاليوم، بعدما هدأ الصخب وأطفئت البروجكتورات، بات بوسعنا أن نؤكّد: الدورة الـ63 من «مهرجان كان السينمائي»، كانت دورة آسيوية بامتياز. ليس فقط لأنّ السعفة الذهبية كانت من نصيب التايلاندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول عن «العم بونمي الذي يستطيع استحضار حيواته السابقة». السعفة كانت نتيجة منطقيّة لحضور مميّز طغى على المهرجان ككلّ، فالأعمال الآسيوية كانت حاضرة بقوة في المسابقة الرسمية (أربعة أفلام من 20لم يتكبد رئيس لجنة التحكيم تيم بورتون وأعضاء اللجنة عناء في تتويج «العم بونمي..» لأسباب كثيرة، أولها أنّ الدورة لم تحوِ أفلاماً ترسخ في الذاكرة. بل إن أفلاماً كثيرة اكتسبت مشروعيتها من أسماء أصحابها قبل أي اعتبار آخر. الفيلم التايلندي قدّم على الأقل مقترحاً جمالياً مغايراً، جانحاً نحو استحضار أساليب سرد خاصة، تمزج الأسطوري بالتاريخي والشخصي، بما يمنحنا فرصةً لدخول عوالم متشابكة عبر شخصية العم العجوز، المريض، الذي يعيش أيامه الأخيرة.
من خلال مرضه، يستعيد بونمي الحاضر والماضي جنباً إلى جنب: البشر الذين ماتوا ورحلوا، والذين ما زالوا على قيد الحياة. ابنه المتوفى تحوّل كائناً أسطورياً على شكل قرد، وزوجته المتوفاة مع أخته التي ما زالت على قيد الحياة. يشحن المخرج تلك الاستحضارات برموز ودلالات مفتوحة على التأويل. لكنّنا سنكون مشغولين عنها بكيفية بناء عوالمها. هذا المونولوج المدهش الذي يردده العم بونمي حين يمضي برفقة البشر الأموات والأحياء إلى مغارة قائلاً: «أنا نائم، لكن عيني مفتوحتين...». ثم تحضر فصائل مسلحة، وتطلّ الكائنات الخرافية التي تلبّست ابنه مجدداً، لتحيط به من كل جانب.
هذه الكائنات ستظهر أيضاً وهي تتوسط الجنود في صورهم الفوتوغرافية. سيقول بونمي الذي يعاني فشلاً كلوياً: «لقد أصبت بهذا المرض قصاصاً على العدد الكبير من الشيوعيين الذين قتلتهم، أو البعوض الذي أقتل منه العشرات يومياً»... إنّها واحدة من الإحالات الكثيرة إلى تاريخ تايلندا. الشريط يسير ضمن إيقاع بطيء، ولقطات متوسطة الطول، وعناية فائقة في التقاط نبض الطبيعة والأدغال.
جديد الصيني وانغ زياوشواي «تشونغ كوينغ بلوز» يحيلنا مباشرة على المدينة، في تناغم تام مع أفلام أخرى له مثل «دراجات بكين» و«أحلام شنغهاي». ويجد في النهر الذي يخترق تشونغ كوينغ معبراً للقصة التي قدمها، ويحكي فيها عن عودة قبطان إلى مدينته بعد غياب مديد، إثر سماعه بوفاة ابنه برصاص الشرطة. هذا الهوس المديني لدى وانغ زياوشواي، سيقابله هوس بالدم لدى الياباني تاكيشي كيتانو. لكنّ تاريخ هذا المخرج الكبير لم يشفع له، ولم يمنع بعض النقاد من وصف فيلمه الجديد «إهانة» بالرديء. الشريط الذي كان مرتقباً بقوة في «مهرجان كان»، امتلك فضيلة واحدة تتمثل في تقديمه اقتراحات مبتكرة في القتل والصراخ، كنّا خلالها وسط حفلة مجانية من القتل والقتل المضاد، بما ضمّخ الفيلم من أوله إلى آخره بسيل متدفق من الدماء التي تبادل إهراقها رجال «الياكوزا» (المافيا اليابانيّة) في ما بينهما.

«شعر» و«الخادمة» مؤشران على صناعة سينمائيّة تعيش نهضتها الجديدة
أما الكوري إيم سانغ سو فبدا مصرّاً، في فيلمه «الخادمة»، على مقاربة المدرسة الـ«هيتشكوكية». فإذا بالتشويق المستوحى من المعلّم البريطاني، لا يتعدى تعقّب مصير خادمة تكون طيبة وشبقة، تستسلم لغواية سيدها، في قالب ميلودرامي يمضي بها إلى الانتحار على مرأى من أفراد العائلة. إذ تشنق وتحرق نفسها وهي تتأرجح مشتعلة في الصالون على مرأى من السيد وأفراد عائلته الذين اجتمعوا لإجهاضها بوحشية.
الفيلم الفائز بجائزة أفضل سيناريو Poetry (شعر) للكوري لي شانغ دونغ، يتمحور حول شخصية ميجا بأداء مميز ليون جانغ ــــ هي. وقد كانت هذه الصفة لصيقة بممثلين كثر في أفلام الدورة الـ36 من «كان». إذ إن معظم الأفلام تمحورت حول شخصية رئيسية، مثل ميجا المرأة الستينية التي تعيش حياتها بشغف، وبأناقة كلاسيكية مفرطة. هي الفقيرة التي تعيش من خدمة رجل مقعد، يستوقفها معهد لتعليم الشِّعر. ونراها تمضي طوال الفيلم وهي تلاحق الشعر الذي يحيطها من كل جانب، وتحاول كتابة قصيدة حقيقية، فيما مرض الألزهايمر يتهددها ويتهدّد أيضاً مصير حفيدها المتهوّر الذي نراها مستعدة لفعل كل شيء كي لا يودع السجن.
«مهرجان كان» توجّه أكثر هذه السنة صوب العملاق الآسيوي الذي يشهد نمواً مطرداً في الإنتاج السينمائي، مع ثيمات ركزت على صورة الشباب المتهوّر... فيما حضرت المرأة بوصفها ضحية المجتمع الذكوري، كما يبدو جليّاً في «شعر» و«الخادمة». عملان مميزان ليسا سوى الجزء الظاهر من صناعة سينمائيّة تعيش نهضتها الجديدة.