بعد قرار الاستغناء عن تسعة صحافيين بلغوا سنّ التقاعد، ها هي المؤسسة السعودية تتأخّر في دفع رواتب موظّفيها، وتدخل مرحلة التقشّف وعصر النفقات
بيسان طي
كلام كثير يتسرّب، هذه الأيّام، من أروقة صحيفة «الحياة»، ومن مكاتبها في بيروت ولندن والقاهرة وعواصم أخرى... ليؤكّد أن لعنة الأزمة المالية وصلت إلى بعض المؤسسات الإعلاميّة التي كانت حتى الأمس القريب بين الأصلب والأكثر استقراراً. ففي عالم الصحافة العربيّة، عرفت «الحياة» السعوديّة بالرخاء النسبي الذي يتمتع به محرّروها ومديروها. لكن الهمس يدور في الكواليس منذ أشهر عن مشاكل مزمنة، من نوع التقصير في بعض الالتزامات الماليّة، مثل تسديد الفواتير المستحقّة للمطابع حول العالم، وتقليص الموازنة، وصولاً إلى التأخير في دفع الرواتب. كل ذلك كان يُعدّ، قبل شهور خلت، ضرباً من الخيال في المؤسسة التي يملكها نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلطان.
في الفترة الأخيرة، صدر قرار بتقليص موازنة الصحيفة، ثم تلاه قرار آخر قضى بالاستغناء عن خدمات تسعة صحافيين أساسيين، بحجة بلوغهم سن التقاعد القانونيّة، وذلك على عدّة دفعات، أولاها في نهاية هذا الشهر، وآخرها في أيلول (سبتمبر) 2011. وقد تزامن صدور هذا القرار مع تأخر دفع الرواتب. خلال الشهر الماضي، تلقى عدد من العاملين في الجريدة رواتبهم على دفعتين. وهذا الشهر، وصلت الرواتب متأخرة أربعة أيام. وكلّما سأل الموظفون عن سبب هذا التأخير، يلقون جواباً واحداً: «لا سيولة». قد يبدو هذا التبرير مقنعاً، بعدما خرج إلى العلن الخلاف بين الأمير خالد بن سلطان، صاحب جريدة «الحياة» ومجلة «لها»، وشريكه في «الشركة الوطنية للدعاية والنشر وتطوير وسائل الإعلام» بشار كيوان. وقد قيل إن الأمير ردد أمام مديري الجريدة: «لن نزيد الموازنة، دبّروا حالكم».
لكن من جهة أخرى، يستغرب بعض العاملين الكلام على «أزمة سيولة»، فيما يزداد الإنفاق على مشاريع معيّنة. إذ بدأ التفاوض بين الجريدة ومؤسسة بريطانية لتجديد الموقع الإلكتروني الخاص بـ«دار الحياة». وإذا عُقد الاتفاق، فالتوسيع الجديد سيكلّف الدار مبالغ طائلة. ويشير بعض العاملين القدامى في المؤسسة إلى «أفكار» لتقليص المصاريف، لا تؤدي في النهاية إلا إلى زيادتها. يشير هؤلاء مثلاً إلى قرار تقليص مساحة مكتب لندن، والاستغناء عن الطبقة الأرضية. بعد القرار أُعيد بناء جزء من الديكور في الطبقة الخامسة من المبنى الرئيسي في العاصمة البريطانية، كينسنغتون ستريت، لتتسع لكل محرري المكتب والمديرين، وصُرف «مبلغ محترم على إعادة ترتيب المكاتب» يقول مطّلع على الملف. ويشير موظّف آخر إلى أن «بعض المَرضيّ عنهم في الجريدة، يجدون دائماً مخارج لتغطية كلفة أسفارهم وتنقلاتهم».
ويذهب آخرون إلى أن إدارة الجريدة، ضيّقت الخناق خلال السنوات الماضية على الصحافيين الذين لا ينخرطون تماماً في خطّها السياسي، ما أدى ببعضهم إلى الاستقالة. ويبدو أن الصحيفة ضاقت بمقالات كتّاب مثل عزمي بشارة ومحمد صادق الحسيني الذين كانت تُنشر مقالاتهم في صفحة «الرأي»، وصارت الصفحة تعتمد كتّاباً من لون سياسي واحد. لكن هذا ليس رأي المدير العام لـ«دار الحياة» رجا الراسي الذي يرى أنّ في الصحيفة تنوعاً كبيراً: «الصحافيون هنا من مختلف الجنسيات والتوجهات السياسية». ويضيف: «لم نطلب من أحد مغادرة الجريدة بسبب آرائه، ولا أرى أنه ضُيِّق الخناق على أحد». فيما يلفت الراسي إلى أنّ قرار «الاستغناء عن الذين بلغوا سن التقاعد، شمل كل المعنيين من دون النظر في انتماءات كل واحد منهم».

لا تعيش «دار الحياة» أزمة مالية، بل عرقلة في السيولة (رجا الراسي)

في المقابل، لا ينفي الراسي وجود «عرقلة» فرضها الانتقال من التعاون مع «الشركة الوطنية»، نحو اتجاه آخر ستُحدد ملامحه لاحقاً. فقد تؤسس الدار مثلاً شركة إعلانات خاصة بها. ويشدد الراسي على أن ما تعيشه «دار الحياة» حالياً لا يُعَدّ أزمة مالية، بل «عرقلة في السيولة فقط»... لافتاً إلى أن جميع مؤسسات الإعلام المكتوب في العالم بدأت تراقب مصاريفها وميزانياتها.
ورداً على تساؤلات عن صرف أموال على بعض المشاريع، يقول الراسي إنّ تجديد الموقع الإلكتروني ضرورة حتمية «نكون مجرمين في حق الجريدة إن لم نفعل ذلك. المستقبل للموقع. لذا، يجب أن نصرف أموالاً لتحسينه وتجديده». أخيراً، ثمة ما يقلق الصحافيين التسعة الذين استُغني عنهم. فوفق بعض القوانين المعمول بها في عواصم مختلفة، قد لا تدفع الجريدة للمصروفين التعويضات التي درجت عليها حتى الآن، لأنهم تخطوا سن التقاعد. هذا ما ردده مسؤول رفيع في «دار الحياة» على مسمع بعض المديرين الآخرين. أما الراسي فقال لـ«الأخبار»: «سننفذ ما ينص عليه القانون بحذافيره»، لافتاً إلى أن الضمان الاجتماعي هو من يدفع التعويضات. لكنّه شدّد قائلاً: «إن كان القانون ينص على أن تدفع المؤسسة لموظفيها الذين غادروا لبلوغهم سن التقاعد، فسنفعل ذلك».


القيادة باقية!

مطلع العام الحالي، عادت الشائعات إلى كواليس «الحياة»، لتتحدّث عن تغييرات في قيادة الجريدة. وأعيد طرح أسماء سعوديّة معيّنة لأعلى مناصب القرار. لكن المراهنات تفتقر إلى أي معطيات عمليّة وملموسة. «رئيس التحرير الحالي غسان شربل (الصورة) باقٍ في منصبه، وقد تأكد من ذلك شخصياً خلال زيارة للمملكة في آذار/ مارس الماضي»، وفق ما يقول أحد المطّلعين. أما رئيس التحرير السابق جورج سمعان، فعاد يكتب في «الحياة» بعدما انفكت الشراكة بين الجريدة و«المؤسسة اللبنانية للإرسال». ومن بين العائدين عبد الوهاب بدرخان، نائب رئيس التحرير السابق لـ«الحياة» قبل استقالته. لكنّه الآن من كتّاب الجريدة فقط... ويعلّق أحد العارفين القدامى بالمؤسسة: «في «الحياة» كل شيء يبقى ممكناً»!