بعد مذبحة «أسطول الحرية»، لم توفّر إسرائيل وسيلةً لتجميل صورتها أمام الرأي العام العالمي، لكنّ الأخطاء التي وردت في قناة الجيش الإسرائيلي الخاصة على موقع «يوتيوب»، بيّنت حجم الكذب وتحوير الحقائق
صباح أيوب
إنّها اللعبة الإعلامية ذاتها تتكرّر مع كل خطأ ترتكبه القوات الإسرائيلية بحقّ المدنيّين: تهاجم بوحشية، وتقتل، ثم تخرج بصورة المدافع عن نفسه، وتروّج لهذه الصورة. ومرةً جديدة، تشارك في اللعبة وسائل الإعلام المتحيّزة نفسها، فتنشر الصورة المزيّفة لمصلحة إسرائيل. مع الهجوم على «قافلة الحرية» قبالة شواطئ غزة، وقتل تسعة ناشطين أتراك، ومصادرة حمولتها من مساعدات إنسانية لأهل غزة المحاصرين، عادت صورة إسرائيل البشعة تطفو على سطح الوقائع والأخبار العالمية. لذا كان لا بدّ للجلّاد من قلب الصورة والتحوّل إلى ضحية في أسرع وقت ممكن.
حجّة إسرائيل الجاهزة دائماً هي «الدفاع عن النفس»، لكنّ الجديد هذه المرة كان الطريقة التي استخدمتها شعبة «العلاقات العامة» في الجيش لترويج الحجّة، وذلك من خلال تقنيات النشر الحديثة كموقع «يوتيوب».
أشرطة فيديو، وتسجيلات صوتيّة تُبثّ على قناة الجيش الإسرائيلي الخاصة على موقع «يوتيوب»، وتتضمّن مشاهد بالصوت والصورة من ليلة الهجوم: صور لأسلحة ثقيلة يزعم الجيش أنه وجدها على متن السفينة، وشهادات لبعض ركّاب القافلة، وأفلام تُظهر الجيش الإسرائيلي يعيد إرسال المساعدات إلى قطاع غزة. لا شكّ في أنّ محتوى الموقع، منحاز لأصحابه، أي للجيش الإسرائيلي، لكنّ بعض الأفلام تُظهر بوضوح التزوير الذي قام به الجيش في الأشرطة لقلب الوقائع.
في شريط أول نشره الجيش الإسرائيلي على «يوتيوب» بعد الهجوم (في 31 أيار/ مايو 2010) يظهر الحديث الذي تبادله الجيش الإسرائيلي مع قيادة سفينة «مافي مرمرة» التركية. في الحوار بين الطرفَين، يحذّر الجيش السفينة من الاقتراب من شواطئ غزة، فتردّ السفينة «جوابنا سلبي، هدفنا غزة. نحن متوجّهون إلى غزة».
بعد أيام على هذا التسجيل، ينشر الجيش الإسرائيلي على الموقع نفسه التسجيل نفسه، لكن بعد تزييفه. إذ عُدّل جواب السفينة التركية وأضيفت إليه عبارتا: «عودوا إلى أوشفيتز»، و«نحن نساعد العرب ضد الولايات المتحدة الأميركية، لا تنسوا 11 أيلول يا شباب». بغضّ النظر عن الفشل التقني في التزوير وظهوره بوضوح على التسجيل الصوتي، لم يتكبّد القيّمون على الموقع عناء اعتماد تسجيل واحد فقط لما حصل في تلك الليلة. لذا نجد على «يوتيوب» اليوم، شريطين للحادثة نفسها، لكن بتسجيلَين صوتيّين مختلفين!
وقد أصدر الجيش الإسرائيلي بياناً صحافياً «للتوضيح والتصحيح» جاء فيه أن الجيش «عدّل التسجيل الصوتي بغية جعله واضحاً للسمع، وقد اكتشف تداخلاً في موجات السفن والتقاط تعليقات وعبارات غير واضحة ومجهولة المصدر».
إعلامياً، تلقّفت الصحف والقنوات التلفزيونية الإسرائيلية والعالمية الشريط المزوّر، ولم يكن منها سوى التهليل لما جاء فيه، وشهر عنوان «معاداة السامية» التي «جاهر بها ركّاب السفينة التركية الأصوليّون المتشدّدون». صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية مثلاً تبنّت الشريط، وزايدت على الجيش الإسرائيلي، فقال

على الموقع نفسه، ظهرت نسختَان للشريط، واحدة حقيقيّة والأخرى مزوّرة

مراسلها إنّ الركاب «ردّدوا العبارات المعادية للسامية مراراً وتكراراً بأعلى أصواتهم». أما في الجزء المخصّص للّقطات من داخل السفينة، فبثّ الجيش الاسرائيلي صوراً غير واضحة زعم أنها «لأسلحة ثقيلة كانت على متن السفينة، وكانت معدّة لمهاجمتهم». إلى جانب شريط آخر، يُظهر شهادة أحد الركاب، الذي يقول وأمامه ميكروفون قناة «برس تي في» الإيرانية إنه «إن شاء الله سيكون مصيره الشهادة في هذه القافلة»، ما يتّخذه جيش العدو ذريعة و«دليلاً» على نيّة الركّاب «غير المسالِمة»، و«الإرهابية».
وقد وُجّهت الاتهامات إلى موقع الجيش الإسرائيلي بتزوير بعض اللقطات من أفلام الصحافيين الذين كانوا على متن السفن بعد مصادرتها منهم، وحثّت «جمعية الصحافيين الأجانب» الجيش «على وقف استخدام المواد الصحافية المصادرة وبثّها بطريقة مشوّهة دون ذكر مصدرها». أمّا بعض وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية، فقد اعتمدت تلك الأشرطة، لتأكيد وجهة النظر الإسرائيلية «بأنها كانت في موقع الدفاع عن النفس»، وأنّ «معظم ركاب السفينة كانوا من الإرهابيّين المتشدّدين».
ومنذ يومين، أرسل المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية إلى الصحافيين (الإسرائيليين والأجانب) على بريدهم الإلكتروني شريطاً تهكّمياً ساخراً من إعداد مسؤولة التحرير في صحيفة «جيروزاليم بوست» كارولين غليك، يظهر إسرائيليّين متنكّرين في زيّ عربي وكوفيات وملتحين يمثّلون ركاب «قافلة الحرية»، ويغنّون «نحن نخدع العالم... نحن نخدع الشعوب... اذبح اليهود». قد تُسعف التقنيات الحديثة البروباغندا الإسرائيلية في طمس الحقيقة وتشويهها أحياناً، لكن مَن سينجّيها من زلّاتها؟