نجوان درويش لم يتوقع أحد أنّ تفجير بيت جبرا إبراهيم جبرا في بغداد سيحمل كل هذه الرمزية، ويستدعي كل هذا الشجن. ليست القصّة ضياع متعلقات نصف قرن من الثقافة العراقية، ونصف قرن من حلم المنطقة العربية، ضمّها بيت إحدى أبرز الشخصيات الفنية والأدبية العربية في القرن العشرين. الأمر يتعدّى ذلك، ونحتاج إلى وقت لاستيعابه، مثلما نحتاج إلى وقت لاستيعاب ما حدث لنا وللعراق منذ احتلاله. كل ما استطعته في الأيام الماضية كان استجماع شجاعتي لأتمكّن من النظر إلى صورة البيت كما نشرت بعد التفجير. البيت الذي دخلناه من كتابات صاحبه، ولا سيما «شارع الأميرات» (الجزء الثاني من سيرته) ومن خلال ما ذكره معاصروه وأصدقاؤه. أبدى بعض هؤلاء، في السنوات الأخيرة، قلقاً على محتويات البيت الذي رأوا فيه متحفاً صغيراً للحياة الأدبية والفنية في بغداد خلال القرن الماضي.
فكّرت في أن رؤية بيت جبرا بعد التفجير تشبه أن يرى المرء صورة يده المقطوعة. وعاد إلى الذهن مشهد من «صراخ في ليل طويل» (باكورة جبرا الروائية التي كتبها في القدس بالإنكليزية عام 1946). يد امرأة جميلة تخرج من تحت أنقاض بيت فجّرته العصابات الإرهابية الصهيونية، في نهاية غير متوقعة لقصة حب معاصرة في أجواء قدس الأربعينيات، كما حلم بها جبرا.

تفجير بيته العراقي يُعيدنا إلى أصل قصّته الفلسطينية

جبرا الذي اتّسمت شخصيته وأدبه بقدر من الكوزموبوليتية، يمتلئ عالمه بالإحالات والصور المحلية، التي تعود جذورها إلى بيت لحم، ولا سيما الرؤية المسيحية. لا شك في أن لطفولته وصباه في بيت لحم والقدس أثراً حاسماً. في إنتاجه الشعري والسردي، نجد ذلك التشبّث بمتعلقات المكان الفلسطيني. وهو ما تلخّصه جملة وضعها في مطلع أعماله الشعرية: «فلتكن هذه فروع زيتونة أخرى في جبل الزيتون، زرع بذرتها في زمن مضى/ فتى كان كثير الرؤى ولم يملك في حياته سوى الحب والكلمات».
وإن كانت الآراء النمطية اعتادت تهميش إنتاجه الشعري لمصلحة قيمته كروائي وناقد ومترجم، فإنّنا نجد في شعره مقترحاً مهماً حتى اللحظة. ورغم تفاعله العضوي وتأثيره في الثقافة العراقية واختياره العراق وطناً وأفقاً للإنتاج والحلم... بقي جبرا اللاجئ الذي تشاء قوة المفارقة أن تعيدنا إلى أصل قصته الفلسطينية بتفجير بيته العراقي.
هل كان مترجم شكسبير وفوكنر، والمعرّف بالتيارات الأدبية والفنية في الغرب، يتخيّل أن الأوراق والصور التي بقيت منه، ستُحرق وتُبدَّد في زمن احتلال أنغلوسكسوني جديد للعراق؟ العراق الذي بدا له حصناً وملاذاً بعد نكبة فلسطين. هل سيصدّقنا إن قلنا له إنّ حروب الغزو والنهب أقوى من الكلمات والصور؟ سنفزع إلى واحد من كتبه حتى لا نصدّق نحن، حتى تستمر كذبة الإيمان بمستقبل لهذا العالم.