هالة نهراتعرض «الجزيرة الوثائقية» مساء الغد شريط «عبد الباسط عبد الصمد» (1927ــــ1988) ضمن برنامج «بصمات». يتناول الفيلم سيرة المجوّد المصري منذ نشأته في قرية المراعزة (محافظة قنا، جنوب مصر)، إلى انتشار ذِكْره في البلدان العربية والإسلامية. لعلّها بادرة جريئة، إذ قلّما يُتطرَّق إعلاميّاً إلى سيرة قارئ متفرّد وعلّامة في التجويد. استمال الآذان بصوته الرخيم، والمشبَع بقابلية فطرية وتقنيّات مكتسبة مكّنته من ابتداع صورة نموذجية للمنشد الديني.
خلال طفولته، التحق ابن الشيخ محمّد عبد الصمد، أحد المجوّدين البارزين، بمدرسة «الشيخ الأمير» المعروفة بـ«الكُتّاب» (في اللهجة المصرية). لاحظ أستاذه تقدّمه وشدّة تركيزه. ثمّ أخذت ترتسم موهبة الصغير على شفتَيه المتحكّمتَين بمخارج الألفاظ. قدرته على «الوَقْف» (وقوف يعقب نهاية إيقاعية) أذهلت أهله وجيرانه. أمّا ذاكرته السماعية وصوته الصادح والشجيّ، فكانا قِبلة الأنظار.
لو لم يكن عبد الباسط عبد الصمد مجوّداً، لكان حتماً من ألمع مطربي القرن العشرين
في سنّ العاشرة، ختم القرآن الذي «كان يتدفّق على لساني كالنهر الجاري»، كما يقول في مذكّراته. وبعدما أتمّ فروضه الأوّلية، استحوذت عليه رغبة التعمّق في علوم القرآن. في تلك الفترة، بدأت تكتمل ملكته اللغوية والترنيمية. لم يكن بعيداً عن المتعة الفنّية والطرب الداخلي الهادئ. جوّد بأسلوب مفخّم وسيّال، فأطرب جمهوراً واسعاً لا يقتصر على المتديّنين والمهتمّين فحسب. بل تلهّف السياسيون والسائقون والبائعون الجوّالون للاستماع إلى صوته العذب على موجات الأثير. وفَور اعتماده في الإذاعة المصرية عام 1951، ازداد الإقبال على أجهزة الراديو، وفاضت السيّارات والمقاهي بابتهالاته. كثيراً ما كانت تدوّي الجوامع بهتافات الإكبار وعبارات التعظيم والفرح أثناء تلاوته.
بعدها، سافر إلى الخارج واستُقبل بحفاوة شعبية ورسمية (فلسطين والسعودية وإندونيسيا وباكستان وجنوب أفريقيا). جوّد في أشهر مساجد فرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة، حيث تجمهر المصلّون للتمتّع بأدائه الخلّاب. كُرّم صاحب «الحنجرة الذهبية» في سوريا ولبنان وماليزيا والسّنغال حيث مُنح عدداً من الأوسمة.
بعد وقت قصير، تمكّن منه مرض السكّر، فتدهورت صحّته وتقلّصت حركته. ظلّ يدندن ويرتّل أمام أقاربه إلى أن أُصيب بفشل كبدي حاد، فاضطرّ إلى السفر لتلقّي العلاج. حين أُعلن خبر وفاته، غصّت شوارع مصر وشيّعه عددٌ من السفراء وممثّلي الدول العربية والعالمية. بالإضافة إلى تمرّسه بالتجويد، كان معروفاً بتواضعه واعتداله وتعاطفه مع الفقراء. لم يؤيّد التمييز الديني أو المذهبي أو العرقي. وقد سُئل في جولته الأفريقية عن موقفه، فأجاب بأن «لا فرق بين إنسان وآخر إلاّ بمقدار الإيمان والعمل الصالح». تأثّر بصوت القارئ العظيم محمّد رفعت. أمّا صوته هو، فأسطوريّ، إذ كاد يلامس الكمال. لو لم يكن عبد الصمد مجوّداً لكان حتماً من ألمع مطربي القرن العشرين. ألمّ بنظريّات الموسيقى العربية وتاريخها وجاء تفوّقه الأدائي من احترافيّته وعناصر تعبيره الصوتي (خامته ومساحته الصوتية وتقنية إصدار الصوت وقدرته على التطريب...). وفيما لا يزال البحث ناشطاً في معالجة مشاكل الصوت، فإنّ عبد الباسط عبد الصمد قد مثّل نموذجاً حيّاً للصوت النديّ الوافي. ولعلّه قرّب بتنغيمه الجميل المتدفّق بين الديني والدنيوي.

غداً 21:00 بتوقيت بيروت على «الجزيرة الوثائقية»