بدر الإبراهيم «أخبِرْهم أن يخرجوا من فلسطين»، هكذا أجابت هيلين توماس عن سؤال بشأن إسرائيل. تحدثت بصراحة، وأعادت التذكير بأصل القضية التي يحاول بعض العرب التهرّب منها لتنفيذ مشاريع خائبة: «هؤلاء الناس محتلون وهذه ليست ألمانيا أو بولندا». قررت عميدة الصحافيين في البيت الأبيض أن تكون أجرأ من بعض العرب التسوويين، فطلبت من الإسرائيليين العودة من حيث
أتوا. عبَّرت هيلين توماس عن رأيها في أرض الحرية، أي أميركا، فماذا كانت النتيجة؟ المتحدِّث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس اعتبر تصريحاتها «عدائية وغير مسؤولة، وتستدعي التوبيخ» وطالبها بالاعتذار. ثم توالت حفلات التبرّؤ منها، ورفضها شخصياً، قبل رفض تصريحاتها، فما كان منها إلا الاعتذار ثم التقاعد لتدفع ثمن تعدّيها الخطوط الحمر. يحدث هذا في أميركا: تُعاقب صحافية على إبداء رأي لامس «محظوراً» تختلط فيه السياسة بالمصالح الاقتصادية والمسائل الثقافية وحتى الدينية. وتسجِّل هذه الحادثة شهادةً جديدة على حجم حرية التعبير وحرية الإعلام في الولايات المتحدة.
عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، تتصرف المؤسسة الحاكمة في أميركا وما يتبعها من أجهزة، كما يتصرفون في جمهوريات الخوف (ولو بنعومة أكثر): تمارس أنواع الإرهاب الفكري علناً، وتصبح حرية التعبير خطيئة تستدعي التوبيخ وإنهاء الحياة المهنية. ثم تختفي كل شعارات الحرية والديموقراطية ليظهر الجنون الأميركي ــــ الإسرائيلي، فيعمل على المحافظة على المصالح المتشابكة، ورفض تظهير صورة الصراع الحقيقية وإنْ على حساب الأيديولوجيا الأميركية.

عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، تصبح حرية التعبير خطيئة تستدعي التوبيخ
الإعلام الحر يصبح عبداً لعقيدة سياسية فاسدة، وتنطبق عليه في هذه الحالة ما ينطبق على غيره في «العالم غير الحر»: ازدواجية في التعاطي مع القضايا المختلفة، وانحراف عن الموضوعية، ورفض للتعددية الفكرية، إلى جانب المساهمة الفاعلة مع السلطة في قمع الآراء وتجريمها و«تكفير» أصحابها.
تقمع الأنظمة الشمولية كل رأي مختلف بطرق عدة تصل إلى التعذيب والتصفية الجسدية. أما في أميركا الديموقراطية، فلا تحدث تصفية جسدية (على ما يبدو)، بل تشارك المؤسسات واللوبيات في حملة ضغط على صاحب الرأي بكل وسيلة ممكنة لمعاقبته على رأيه وإجباره على الاعتذار... ربما لذلك تبدو أميركا متحضرة! والحقيقة أن القمع ملة واحدة، لكن بعض «المثقفين» العرب المبهورين بالتجربة الأميركية لا يريدون أن يروا حدود ديموقراطيتها ولا طبيعة ممارستها. لذلك، يستمرّون رغم كل حادثة من هذا النوع في تمجيد القمع الناعم، فيما الحرية لا تتجزأ، والقمع لا يُغيِّر اختلاف ألوانِه طبيعتَه.
فضحت الصحافية المخضرمة اللبنانية الأصل، مرة جديدة، حقيقة حرية التعبير في الولايات المتحدة وتناقضات شعارات المؤسسة مع ممارساتها. ويبدو أن خروقات جديّة تظهر في جدار التضليل الإعلامي الغربي بشأن قضية فلسطين، هي بحاجة إلى مزيد من الدعم ليسقط الجدار ويُفك الحصار عن عقول البشر هناك و... قلوبهم.