الفلاحة الفصيحة أصابتها لعنة الفراعنة
في روايته الجديدة «يوم غائم في البر الغربي» يجمع الكاتب بين عالمين وزمنين: عصر «الفرعون المارق» آخناتون، وأيام الحركة الوطنية في مصر الحديثة. من خلال سرد ممتع، لكن مثقل بالرمزيّة، يقول صاحب «انكسار الروح» الفشل الحتمي لكلّ محاولات التحرّر، في «بلد لا يتنفّس إلا الكوابيس»

دينا حشمت
تبدأ رواية المنسي قنديل «يوم غائم في البر الغربي» (دار الشروق ــ القاهرة) التي كانت ضمن القائمة القصيرة لـ«بوكر» العربية، بمشهد عائشة التي تجرّها أمها بعيداً عن قرية المنشأ قرب أسيوط، ليُدقّ لها صليب على معصمها. لا نفهم سبب محاولة الأم تقديم ابنتها على أنها مسيحية إلا حين تلتحق بدير راهبات. حينئذ، يتضح أنّها تحاول إنقاذها من شهوانيّة زوجها، عمّ عائشة الذي فرضته عليها التقاليد بعد موت الأب. لكن عائشة ليست مجرّد شخصية روائية. صاحب «قمر على سمرقند» أرادها رمزاً لـ«خلاصة الروح المصرية»، وفق الناقد صلاح فضل. الفلاحة المصرية التي تستعير الهوية المسلمة ثم المسيحية، تصبح أيضاً «أميرة فرعونية» في عيون عالم الآثار هوارد كارتر. وبعد عملها كمترجمة لزوجة اللورد كرومر ثم للورد نفسه، تقرّر عائشة العمل في جريدة «اللواء» مع زعيم الحركة الوطنية مصطفى كامل. هناك تعيش قصة حب مع محمود مختار شخصياً، صاحب تمثال «نهضة مصر» الذي يستلهم ملامح المرأة الشامخة جنب أبي الهول من ملامحها هي.
عائشة إذاً، كما يشير اسمها، «خلاصة الروح المصرية»... وسيتحسّر القارئ على إخفاقاتها المتتالية في الهروب من قدر لا فكاك منه. رغم تضحية أمها لإنقاذها من مصير مؤكد، تُغتصب عائشة عندما تكبر. تجهض أحلام الفتاة المتشوّقة إلى التحرّر، وتواجه بـ«جسد حيوان تعس يستجيب فقط لأحاسيس الحرمان والشبع، ملوثاً بالعرق والسوائل والمني والرغبات العمياء وكثير من الخضوع المخجل»، ولا تنجو إلا بعد أن تقتل الذئاب العم.
«المعرفة الفطريّة» للمرأة الشرقيّة، والمنطق المنتصِر لـ«الخواجة» المستعمِر
الذئاب، لسبب غامض، تحرس الفتاة الفرعونية الملامح منذ صغرها، كأنّ مصيرها التحم بطبيعة مصرية خالدة. «الذئاب هي فاتحة الأبواب المغلقة» ومن «المخلوقات المضيئة». فهي «تضيء» مسيرة شخصيتين مهمتين في تاريخ الدولة المصرية القديمة، الفرعونين آخناتون وتوت عنخ أمون اللذين كرّس لهما قنديل جزءين في «استطراد مذهل يخرق قوانين السرد المألوف» وفق صلاح فضل. في هذين الجزءين، ينتقل قنديل إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد أثناء حكم الفرعون «المارق» الذي تمرّد على «كهنة آمون»، وأسّس لعبودية الإله الواحد آتون. يقدّم آخناتون في آخر أيام عرشه، عند انهيار حلمه ببناء دولة جديدة، متخلّصة من تطفّل كهنة آمون، دولة لا يُسخّر فيها الفلاحون لبناء معابد عملاقة وحروب بلا نهاية.
ولا يشترك عائشة وأخناتون فقط في تمسكهما بما يريانه صحيحاً، ضدّ التقاليد. هناك أيضاً العلاقة التي تربطهما بالذئاب. الذئاب تدل أخناتون ـ الباحث عن ولد يرث عرشه ـ على طفل ذَكَر أرضعته في «البراري»، فيأخذه إلى قصره ويقدّمه على أنه خليفته: توت عنخ آمون.
وبغض النظر عن طريقة تعاطي المنسي قنديل مع التاريخ الذي قام بـ«تطويعه»، فالأهم هنا هو الصلة بين الفرعون الجديد وعالم الحيوان. حين يُتوّج توت عنخ آمون بعد موت أبيه، يهرب في ليالي اكتمال القمر ليلتحق بأصدقائه الذئاب في موقع بناء مقبرته. وحول هذه البقعة من الأرض «المقدّسة»، تكتمل حبكة الرواية، فهوارد كارتر، يقنع عائشة بالذهاب معه إلى الأقصر، لتكون «تميمة حظه المتعثّر». وهناك، تدلّه على موقع الحفر فوق تل تختبئ تحته المقبرة. وحين يبدأ كارتر الحفر، تنهار عائشة مرعوبة، مسكونة بمشهد موتها هي. تشعر بأنها خانت عهد الفلاحين أصحاب المنطقة. ألم يحذّرها عبد الرسول من إرشاد «الخواجة» على مكان المقبرة، ساخراً من أوهامه، وادّعائه بأنه يملك علماً فريداً لا يملكه غيره؟
الرواية تنتهي بانتصار «الخواجة» على الفلاحين والذئاب وحرمة المقبرة، لحظة فتح كارتر مقبرة توت عنخ آمون. إنه رجل يعشق عمله حدّ الهوس، عاشر الفلاحين وأتقن لغتهم لكنه لا يزال «خواجة» و«إنكليزي كمان». لا يترك قنديل لعالم الآثار البريطاني كلمة النهاية إلا بعد استدلال معرفة عائشة الفطرية بتاريخ أجدادها. صحيح أنه تجنّب الوقوع في فخ «الكليشيه» في تصويره لهذا «التعاون» بين العالم البريطاني والفتاة المصرية، بين الغرب والشرق... إلا أن «فصل الأدوار» هذا، بحد ذاته، أدّى إلى التصاق صفة «المعرفة الفطرية» بالمرأة الشرقية، والمنطق المنتصِر بالعالِم الآتي من البلد المستعمِر. وفي التباين بين نجاح كارتر في تجاوز جميع العقبات، وفشل عائشة في التخلّص من موروث خرافي ممتد لآلاف السنوات. هنا يتساءل القارئ: لماذا لا تقدر عائشة على التحكّم بحياتها رغم التحاقها بالحركة الوطنية، وإتقانها العربية والإنكليزية... ورغم قصتها الغرامية مع محمود مختار؟ لماذا تقع فريسة سهلة لقدر قاس لا هروب منه؟
تخشى عائشة اكتشاف كارتر لأنها تشعر بأنه ينذر بموتها، ما قد يعني أن في استحواذ العلم على التاريخ، موت المقدّس والموروث، وأن في تحقيق «الحداثة» انتهاكاً ليس فقط للقداسة بل لـ«خلاصة الروح المصرية» أيضاً. لا يملك القارئ إلا أن يحار أمام هذا التعبير الأدبي لحتمية فشل جميع محاولات التحرّر في «بلد لا يتنفّس إلا الكوابيس». لا يملك إلا أن يحار وهو يرى أن عائشة، مثل «الفرعون المارق» آخناتون، لم تكن سوى «حلم عابر» اختار صاحب «انكسار الروح» أن يقتله.