جوانا عازارأربعة عقود بين حزيران 67 و2007، يتناولها الباحث كميل الحاج بمنظار النقد في كتابه الجديد. تحت عنوان «تصدّع العقل العربيّ المعاصر أو الصدام الصّاعق مع الحداثة ـــــ في الواقع المعرفي والسياسي والثقافي والحضاري العربي ( 1967ـــــ 2007)» (دار الحداثة)، يسأل الباحث: لماذا ينقسم العقل العربي المعاصر إلى نصفين متنابذين لكلٍّ منهما مرجعيته الحضارية وزمنه الثقافي المختلف؟ النصف الأول حداثي (علماني)، والآخر إسلامي (سلفي)... يسأل أيضاً لماذا تعيش المجتمعات العربية في حالة انفصام دائمة بين حاضر تعيشه، وماضٍ ذهبي تريد العودة إليه؟ ولماذا بقي العرب غرباء عن الحداثة؟
يقسم الحاج قضايا الفكر العربي المعاصر إلى أربعة مواضيع أساسية: المسألة المعرفيّة (وهي تتضمّن أيضاً القراءات التأويلية الجديدة للنص الديني)، والمسألة الثقافيّة (تتضمن إشكاليّة التراث والحداثة)، والمسألة السياسية (تتضمّن الإسلام والسياسة، والإسلام والديموقراطية)، ومسألة التقدّم والنهوض.
يستعمل الكتاب المعيار الابيستمولوجي لتصنيف المفكّرين وفرزهم. ويخلص إلى أنّ «كلّ من يؤمن بالنص الديني وبمرجعيّته وبأولويته في المعرفة والثقافة والسياسة... هو حكماً داخل تيار فكريّ واحد، سمّيته التيّار النصّي (نسبة إلى النص الديني). وكل مفكّر يقول بأولويّة العقل على النص، ويَعدّه مرجعيته الأولى في المعرفة والسيّاسة والثقافة والاجتماع هو حتماً داخل تيار فكري واحد، سمّيته التيار العقلي (نسبة إلى العقل)». وفقاً لتصنيف الحاج، «أصبحت كل اتجاهات الفكر الإسلامي: سلفي، أصولي، إصلاحي... في جهة واحدة، وضمن فريق واحد. وبالمقابل، أصبحت كل اتجاهات الفكر الليبرالي، القومي، الماركسي، من جهة ثانية، وضمن فريق واحد»، يكتب. هكذا، يرى الباحث أن العقل العربي خضع ولا يزال لعملية تجاذب عنيفة بين رؤيتين للعالم Weltanschauung. الأولى رؤية دينية لاهوتية، والثانية حداثيّة علميّة وعلمانيّة وتجد مرجعيتها المعرفيّة في كلّ ما أنتجه العقل الغربي.

رؤيتان للعالم كلّ واحدة منهما تدين الأخرى وترفضها

في هذا السياق، أصبح أيّ موقف ثقافي وسياسي يصنّف كالآتي: موقف يرى أنّ الحضارة الراهنة هي حضارة غربيّة محضة تصادر ثقافة الشعوب الأخرى وتقتل ثقافتها. وموقف آخر يعتقد أنّ تخلّف العرب عائد إلى عوامل ذاتيّة متعلّقة ببنية المجتمع والثقافة الدينيّة المسيطرة وقصورهما عن تحقيق القفزات العلميّة والتكنولوجيّة.
نتيجةً لهذا الاستقطاب الحاد، أصبح العقل العربي المعاصر يعمل وفق منطق: «إما، أو» Either, or أو ما يُعرف بـ«التفكير بالمجموع صفر» zero-sum thinking. ما يَعدّه الفريق الأول سبباً في التقدم، يَعدّه الثاني علّة الانحطاط والانحلال، وإنّ ما ينظر إليه الثاني أساساً للانطلاق والانبعاث، يراه الفريق الأول عقبة أمام أيّ نوع من أنواع التغيير الإيجابي.
في النتيجة، أصبحنا أمام «عقلين عربيّين» يعملان في اتجاهين متعاكسين أو أمام «رؤيتين للعالم»، كلّ واحدة منهما تدين الأخرى وترفضها. لم يتردّد الباحث في فتح ملفات الخصومة الساخنة بين التيارين الكبيرين في الثقافة العربية (الإسلاميّين والعلمانيّين) التي كانت سبباً في إسالة الدماء ووقوع ضحايا من المفكّرين العرب المعاصرين.