سفيان الشورابيتُرى، ماذا يدور في خَلَد رجل الجمارك، حين يفتّش حقائبي كلّما عدت إلى بلدي؟ هل يعتقد أنه وقع على صيد ثمين؟ أيظن أنه يقوم بعمل بطوليّ لوطنه؟ ما الذي يجعله يساوي في تعامله الفظّ، بين صحافيّ ومهرّب شنطة، أو تاجر مخدّرات؟
المشهد نفسه يتكرّر كل مرّة: فور تسجيل جواز سفري على الحاسوب، تبرُق عينا الرجل الجالس خلف الشبّاك، وترسلان إشارات مبهمة مفادها أن شيئاً خطيراً تراءى له على الشاشة. يشير عليّ بالتنحّي جانباً، والانتظار ريثما ينجلي الأمر. أيّ أمر؟ سرعان ما يأتيني الجواب، مع اقتراب أحد أصحاب «الجثث الضخمة»، الذين يحومون عادةً في المكان، من دون أن تكون لهم هويّة واضحة. يهمس في أذني مرحّباً، ويطمئنني: ليس هناك أيّ مشكل معي. فهمت لاحقاً أنّ هذا السلوك معناه، أنني لست ممنوعاً من دخول البلد.
الفكر ممنوع في البلاد التي كانت بالأمس نموذجاً للانفتاح والحريّة
وفي تلك الأثناء، تتحرّك مجموعة من أصحاب «الجثث الضخمة» إلى صالة التفتيش، أراهم عن بعد يأمرون أعوان الجمارك بالتهيّؤ لاستقبال زائر جديد. حالما أمسك بحقائبي، تنهال الكواسر تنقيباً في محتوياتها. نعم، أنا مرحّب بي «جسدياً» هنا، أمّا «فكريّاً»، فلا مفرّ من الخضوع لسياسة الظلام الدامس. الأيدي الغليظة تعبث بالوثائق والكتب والمجلّات. والأدمغة مبرمجة على مجموعة من المفردات: كلمات مشبوهة، ممنوعة من دخول البلاد التي كان يُضرب فيها المثل عربيّاً، وتطرح نموذجاً للانفتاح والحريّة.
أين نحن اليوم؟ ماذا يقول الغيارى على الديموقراطيّة وحقوق الإنسان في الغرب؟ هذا الفضاء المقفل تنبعث منه رائحة النتن، ومع ذلك أهلاً بكم إلى بلد السياحة والانفتاح... لكن لا تفكّروا. الثقافة سلعة مشبوهة، تُعرّض ناقلها للمتاعب. لا روايات، ولا قصص عربية وأجنبية، ولا معاجم ولا دوريّات: كلّها تبقى عند الرقيب. تُرى هل يقرأها على الأقل؟
لا، ليس مشهداً من فيلم عن الحقبة المظلمة التي سبقت سقوط جدار برلين... هذا ما حدث معي قبل أيّام في طريق عودتي من بيروت، محمّلاً بالكتب والمطبوعات، وأعداد من «الأخبار». ليس هناك في الدنيا مكان يُهان فيه المواطن الداخل إلى بلاده مثل المطارات العربيّة. جدران برلين لم تسقط في المقلب الآخر من المتوسّط، والديموقراطيات الغربيّة لا تريد لها أن تسقط على الأرجح. فرسان الحريّة ليسوا على عجلة من أمرهم. علماً أنّ كل يوم تأخير يرفع نسبة القهر والجهل والظلاميّة والتعصّب... لكن اطمئنّوا أيها الأصدقاء، فما زلنا نرصد شمس الحريّة.