أماديوس إلى الأبد، ولكن...



فيلمان جديدان عن المؤلّف النمساوي: «دون جيوفاني، ولادة أوبرا» للمعلّم الإسباني كارلوس ساورا و«نانيرل، شقيقة موزار» للفرنسي رونيه فيريه

بشير صفير
موزار (1756 ـــــ 1791) إلى الشاشة الكبيرة مجدداً. رغم حياته القصيرة، استطاع شبه الإله هذا إنجاز عملٍ فنيّ يحتاج، كمّاً، إلى ضعف السنوات التي قضاها بيننا، ونوعاً، إلى اجتماع أضعافٍ مِن العبقرية الموسيقية المتعارف عليها بين البشر. كلّ ذلك حيّر السينمائيّين بين جاذبية الموضوع والحذر من تقديم رواية ركيكة تفضح عدم فهْم إحدى أكثر الشخصيات غموضاً في التاريخ.
من هنا استحقّت جرأة المخرج التشيكي ميلوش فورمان تحيّة محبّي السينما وموزار على حدٍ سواء. منذ صدور «أماديوس» (1984)، لم يجد كبار المخرجين رؤيةً تنافس إنجاز فورمان. ثم أتى جان ـــــ لوك غودار ليزيد الأمر تعقيداً، مع إنجازه «موزار إلى الأبد» (1996)، الذي أتى عبارة عن تأملات في الفن والبؤس والحروب في



إفتتاحية DON GIOVANNI








العالم، مستوحاة من حرب البوسنة. رغم العنوان الواضح الذي اختاره لفيلمه، لم يتطرق المعلم الفرنسي إلى حياة موزار أو أعماله أو أي عنصر ذي صلة، لا من قريب ولا من بعيد. ربما أراد بذلك القول إن المسّ بهذه الجوهرة أمرٌ حرام. من جهة أخرى، وفي سياق مختلف، لا بدّ هنا من الإشارة إلى تناول السينما أعمال موزار الأوبرالية. عنوانان يلخّصان هذا الشق في علاقة موزار بالسينما، يحملان أيضاً توقيع عملاقيْن. الأول، «دون جيوفاني» (1979) رائعة الأميركي جوزف لوزي، و«الناي المسحور» (1974) للسويدي إنغمار برغمان (الذي لا يعكّره سوى استبدال لغة العمل الأصلية، الألمانية، بلغة «دخيلة» هي السويدية).
بالأمس، أدخلنا ميلوش فورمان عالم موزار من باب غريمه، المؤلف



مقطع من "CONCERTO FOR 2 PIANO - First MVT"








الإيطالي أنطونيو سالييري. اليوم، بالتزامن، يعود المؤلف النمساوي إلى الشاشة الكبيرة عبر «دون جيوفاني، ولادة أوبرا» للمخرج الإسباني الشهير كارلوس ساورا (1932)، و«نانيرل، شقيقة موزار» للفرنسي رونيه فيريهه (1945). ساورا، الذي سبق أن سخَّر إبداعه للفن عموماً، وخصوصاً الفن التشكيلي (غويا في بوردو) والموسيقى والرقص («كارمن»، «فلامنكو»، «تانغو»، «سالوميه»...)، يقارب الموضوع من جهة لورينزو دا بونتيه (Lorenzo da Ponte)، كاتب حوارات ثلاثة مِن أهم الأعمال الأوبرالية التي تركها موزار، أي الثلاثية الإيطالية، «زواج فيغارو»، Cosi Fan Tutte (هكذا يفعلْنَ كلهنَّ) و«دون جيوفاني». إذاً يتمحور فيلم ساورا، الذي نزل إلى الصالات بعد «كان»، حول العمل الأخير في هذه الثلاثية، والظروف التي رافقت إنجازه، مركّزاً على دا بونتيه، وتعاونه مع موزار في تلك المرحلة.

استقبلت الصحافة الغربية العملين بفتور نسبي
أما رونيه فيريه، كما يدل عنوان فيلمه، فيلقي الضوء على شخصية أساسية في حياة موزار العائلية والفنية. إنها شقيقته الوحيدة، المعروفة باسم نانيرل (1751 ـــــ 1829)، التي كانت تكبره بحوالى أربع سنوات. كانت نانيرل عازفة كلافسان (وبيانو) بارعة، وقد اهتم والدها بتربيتها الموسيقية كما اهتم بشقيقها الذي حلّق سريعاً في هذا العالم متخطّياً آنذاك، ليس فقط أفراد عائلته، بل جميع معاصريه. غير أن نانيرل كانت أيضاً صديقة شقيقها، الذي كتب أعمالاً تجمعهما في إطلالتهما الفنية العلنية، ما أكسبها شهرة في المجتمع الأوروبي آنذاك. من هنا، تكوّنت مادة ممتعة بنى فيريه عليها فيلمه الجديد، مهمّشاً بطبيعة الحال جانباً كبيراً من حياة موزار وفنّه. وهذه هي الحال أيضاً بالنسبة إلى فيلم ساورا الذي تناول من كلّ ما كتب موزار أوبرا «دون جيوفاني»، وذلك ليس من الزاوية الفنية، بل من تلك التي تضع كاتب حوارات العمل في واجهة القصة.
استقبلت الصحافة الغربية العملين بفتور نسبي. تحدث بعض النقاد عن تحوير في الحقائق التاريخية، وخصوصاً في ما يتعلق بنانيرل، شقيقة موزار. قيل إن الفيلم يضع تحت المجهر ظلماً لحق بشقيقة موزار، حرمها من ذكر اسمها في التاريخ، إذ «يفضح» العدائية التي تعرّضت لها الفتاة الموهوبة، لكونها امرأة في مجتمع ذكوري! أما الفيلم الحقيقي عن موزار، فلم يصوّر بعد. وقد لا يبصر النور أبداً.