سامر الأشقرصحيح أنّ عاصي تعرّض للتهميش من أولاد منصور حين لم يدرجوا اسمه في التكريم. لكن تهميش عاصي وقع أيضاً في الصحافة المدافعة عنه أو عن فيروز. لقد حوّلوه إلى شخصية سلبية لا تتفاعل. مثلاً، لا أحد فكر كثيراً في عاصي وفق ما بدا في شريط «كانت حكاية»، وما قالته فيروز عنه. اهتم المعجبون والصحافة فقط بأنّ فيروز أطلت لتحكي عن الراحل، ورأوا ثانياً أنّ الوثائقي مادة ضد منصور وأولاده. وبذلك، ليس ثمة تكريم لعاصي. لا أحد اهتم كيف كان هذا الملحن يشتغل ويقرر، ولا بما قالته فيروز عن موقف عاصي من الأعمال الشرقية.
حين قالت فيروز في فيلم ريما، إنّ عاصي كان يريد كل شيء على صورته، فهم كثيرون أنّ هذه شهادة ضد منصور. واعتقدوا أنّ فيروز عنت أنّه لم يكن لمنصور يد في خلق الأعمال. ولعل هذا ينطبق فعلاً على الأعمال التي أُنجزت قبل عام 1973. لكنهم لم ينتبهوا إلى أن هذا يعني أيضاً أنّ فيروز لم تكن لها الكلمة الفصل في ما تريد غنائه أو لا تريد، وفي كيفية تأدية الأغنيات، بل كان عليها أن تغنّيها كما يريد عاصي، وتستعمل صوتها كما يريد عاصي. لم يكن هناك ثنائية في أي قرار بين عاصي ومنصور، ولا بين عاصي وفيروز.
في أمثلة أخرى، قالت فيروز إنّ الوقت سينصف عاصي ويبرز أعماله. فُسِّر ذلك أيضاً بأنّه كلام ضد أعمال منصور وأولاده. حتى صاحبة فكرة الوثائقي ريما الرحباني استشهدت بهذه العبارة في مقابلة إذاعية ناقشت فيها الإشكال مع أولاد منصور. بالتأكيد، هذا كلام ينطبق على أعمال منصور وأولاده التي يعطونها صفة «إكمال» فنّ عاصي. لكن فيروز عنت أكثر من ذلك: بعد تعاملها المرير مع فيلمون وهبه والسنباطي وزكي ناصيف في الثمانينيات، اكتشفت أنه لا شيء يمكن أن يكون مثل عاصي، حتى لو كان صوتها موجوداً فيه، وأنّ الوقت سيمحو أعمالاً كثيرة مثل أعمال منصور. ولعلّ الوقت سيمحو أيضاً شيئاً من إنتاج الرحابنة بعد سنة 1973... لتبقى أعمال عاصي النضرة مثل تلك التي يروق زياد الرحباني إعادة توزيعها.
بعد مرض عاصي، بدأت رؤية منصور الرحباني تظهر: في «قصيدة حب» عام 1973، بات التركيز على إعادة الماضي، لم يعد هناك من حبكة درامية وأصبحت الشخصيات مسطحة.
في مكان آخر في الشريط، قالت فيروز إنّ مسرح عاصي كان يعطي الناس زوادةً تبقى معهم بعد انتهاء العرض. أما اليوم، فيخرج هؤلاء من دون أن يبقى شيء عالقاً في أذهانهم. ولا ينطبق هذا على أعمال منصور وأولاده فحسب، بل أيضاً على كل إنتاج منصور وإنتاج فيروز من دون زياد: كلها أعمال من دون إخراج موسيقي مع عزف ركيك وعشوائي لموسيقى الأخوين. لا يوجد أي زوادة نأخذها من أي شيء يتعلق بفن عاصي بعد مرضه إلا مع زياد. لا يكفي أن يكون اسم منصور موجوداً في عمل ليكون تكملة لعاصي كما كان يعتقد. في مسرحه، أصبحت المواضيع تركّز على الخير والشر والتاريخ والوعظ. ولا يكفي أن تعزف ألحان الأخوين رحباني ليكون العمل تكملة لعاصي. وهذا ليس انتقاصاً من فيروز: هي كانت جزءاً من فريق وليس مثل المطربات اللواتي برزن في الأغنية المصريّة. وهذا سرّ نجاح المدرسة الرحبانيّة.
في حفلات فيروز من دون زياد، فإنّ فيروز وأغاني الأخوين تشبه رؤية منصور لهذه الأعمال أكثر من رؤية عاصي (قبل الـ 1973): تحولت الأغنيات إلى شيء قديم ورتيب ومتصلب. أما عند عاصي، فكان كل شيء مهماً: من اللحن إلى التوزيع والضبط وفيروز... تماماً مثلما هي الحال مع زياد اليوم.
وحده زياد قادر على إحياء فن عاصي قبل عام 1973. هذا الفن الذي استعاد نضارته وزخمه وحبكته وغزارته وإبداعه، في أسطوانات مثل «إلى عاصي» و«فيروز في بيت الدين 2000»... وحفلات لم تصدر مع عزف رائع وإحساس رائع لفيروز مثل حفلة لندن سنة 1994 (وإن حوت بعض الأخطاء)، وبيت الدين 2001 ثم 2003... هناك فقط يمكن أن نلتقي عاصي الرحباني.