عودة إلى كتاب خليل أحمد خليل مع صدور طبعته الثانية عن «دار الطليعة»، وفيه يقارب الفكر الإسلامي بين العقل والغيب، ويستعيد أطروحات محمد عابد الجابري ومحمد أركون، باحثاً في الأزمة التاريخيّة والسياسيّة وعلاقتها بمحنة العقل العربي
ريتا فرج
في أطروحته «العقل في الإسلام»، يجادل خليل أحمد خليل أبرز المسارات العقائدية والتاريخية التي أدّت إلى ذهنية اعتقادية لم تأخذ في الاعتبار مركزية العقل المستقل، القارئ للدين والعالم والظواهر وفق منطق استقرائي، واستنباطي، وتأويلي، يولِّد النظريات ويشرحها وينتقدها. ويتساءل العلّامة اللبناني في كتابه الصادر بطبعته الثانية (دار الطليعة ــــ بيروت): ما العقل؟ لمَ العقل؟ ويحدّد المؤلّف نموذجين لقراءاته النقدية: الأول مع محمد عابد الجابري، والثاني مع محمد أركون.
بعد توقّف عند الجابري المنظِّر لاستقالة العقل من تاريخ الحاضر العربي الذي استعان بالعدة الفلسفية الغربية في تعريفه لماهوية العقل، متوسّلاً الفيلسوف الراحل أندريه لالاند الذي فرّق بين العقل الفاعل والعقل المكوّن، يسأل خليل المفكّر المغربي عن أسباب قراءته للعقل التاريخي العربي من خلال تمذهبه وانقساماته، لا من خلال المسكوت عنه لمسيرة التغالب العربي على السلطة. ويرى أنّ التمييز الذي أقامه صاحب «تكوين العقل العربي» بين عقل سُنّي وآخر شيعي بوصف الأخير بـ«العقل المستقيل»، يمثل تقسيماً إيديولوجياً، لا يأخذ في الاعتبار أنّ العقل الشيعي المعارض، كان في صميم هذا التاريخ التغالبي، وهو عقل رافض لسلطة المنع والقمع.
الانغلاق العقائدي ليس سوى نتيجة للعنف السياسي
ويرد العلّامة على ناقد العقل الإسلامي أركون الذي خلص إلى أنّ الأصل الإلهي هو المسيطر على العقل العربي، إذ ينفي المؤلف إمكان توظيف العقل البشري في حقل اعتقادي: فلا وجود لعقل مؤمن وعقل غير مؤمن، والفرضيتان لا علاقة لهما بماهوية العقل.
يتمحور القسم الثاني من الكتاب حول «المعاقلة الشيعية» المعاصرة، وأهم رموزها من هاشم معروف الحسيني، ومحمد المظفري، ومرتضى المطهري، ومحمد جواد مغنية، ومحمد مهدي شمس الدين، وصولاً إلى محمد حسين فضل الله. في قراءته النقدية لكتاب «تاريخ الشيعة» للشيخ المظفري، يسأل خليل أحمد خليل: هل استقام التاريخ مع وصول علي إلى الخلافة؟ ولماذا تحول تاريخ المسلمين إلى سلسلة مذابح واجتثاثات؟ هل لأنّ عقل السلطة لم يتسع لعقل المعارضة؟ وبرأينا أنّ الإسلام التاريخي أسس للحروب والتغالب منذ الخلاف على قيادة الجماعة التي تحولت باسم الدين إلى حزبيات ومذاهب كما وصفها عبد الله العلايلي في مؤلفه «أين الخطأ».
والخلاصة التي يمكن استنتاجها من تاريخ الإسلام الغابر والحاضر، أنّ الدولة السلطانية هي التي تحكمت بمصائر الأمة، لا الإسلام. وبناءً على هذا، لا يمكن القول إنّ الإسلام هو الذي رسم تاريخ المسلمين بالمعنى المؤسساتي. لكنّ المعطى السياسي هو الذي طبع تاريخهم منذ الدولة الأموية إلى سقوط آخر سلطان عثماني، وقيام أتاتورك بإعلان تركيا دولة علمانية تحت راية القوانين الوضعية. وطبعاً، فإنّ الصراع على السلطة لم يترك مجالاً لسياسة العقل، فهل نحن أمام محنة للعقل العربي، أم أننا أمام أزمة تاريخية؟ العقل وفق المفهوم الهيغلي، يؤسس للوحدة، وعلى هذا الأساس لا يمكن الحديث عن عقل غربي، وآخر شرقي، فالحضارات لا تحكمها سوى جدلية الأضداد إلى أن تبلغ وحدتها. فيما الانغلاق العقائدي هو منتج للعنف السياسي، وبالتالي، يمكن فهم حالة التذرير عند «خير أمة أخرجت للناس».
أهم ما نخرج به من أطروحة خليل، أنّ الإسلام ـــــ إسلام التوحيد والعدل ـــــ تحوّل نتيجة الخلاف السلطوي، إلى إسلام التشرذم والتمذهب. ورغم مركزية المعاقلة الشيعية في صفحات الكتاب، إلا أنّ أفكاره تعالج مسائل شديدة الأهمية، لعل أبرزها غياب سياسة العقل في قيادة أمور الجماعة، وإقصاء المعارضة الشيعية عن الحكم على مدار الخلافات والوصايات... تلك المعارضة كانت بحكم الضرورة التاريخية رد فعل على السلطة القمعية، حسب الكاتب، وليست عقلاً مستقيلاً كما ذهب إلى ذلك الجابري.
أطروحة خليل أحمد خليل مفرطة في الكثافة والتعقيد، خصبة بالتساؤل والتوتر. وقد تبدو مرهقة للباحث المتخصص، فكيف بالأحرى للقارئ العادي؟ الكتاب الذي يمثل ذروة نتاجه الفكري والإبداعي، يحتاج كل قسم فيه إلى قراءة متأنية، لكثرة ما يحويه من إشكاليات، لمّا يزل عقل العقل يتحرى عنها، متصدياً لعقل النص حيناً، وللعقل الاعتقادي حيناً آخر. ويتخطّى الكاتب محورية البحث عن حدود الشراكة بين العلم والدين، طارحاً على ذاته وعلى الآخر، أفكاراً وتوليفات علمية محضة... فهل ما زال ممكناً أن نقبل مقولة عبد الله القصيمي بأنّ العالم (العربي) ليس عقلاً؟