صداقة عمر ربطت القاص المصري سعيد الكفراوي (1939) بمحمد عفيفي مطر. التقيا منتصف الستينيات ولم يفترقا إلا مع رحيل صاحب «كتاب الأرض والدم» أول من أمس. في أوائل التسعينيات عندما ألقي القبض على عفيفي مطر، كانت حرب الخليج الثانية قد اندلعت. وكان الشاعر الراحل ـــــ ككل المثقفين العرب ـــــ غاضباً. كان غضبه معلناً، إذ راح يدين في خطابه كل الأنظمة السياسية المتواطئة مع الغازي. لم يستجب يومها لنصائح الاصدقاء، ولم يحترس. سافر مرة إلى قريته كما يفعل عادةً لكنه اختفى. لم يعرف أي من أصدقائه عنه شيئاً حتى جاء الخبر: «لقد اعتقل عفيفي مطر قبل عشرة أيام»... أخذ من بيته الريفي إلى مبنى أمن الدولة في ميدان لاظوغلي (القاهرة)... «هناك حيث العوالم السفلية للقهر، والممرات الرطبة التي يحتلها عتاولة التعذيب»، كما يقول الكفراوي. ذهب الأخير إلى هناك يبحث عن صديقه، في زنازين الاعتقال المصريّة التي ليس لها آخر. عرف الكفراوي من صديق له أن مطر نقل إلى سجن طرة، فذهب صاحب
خرج من السجن بديوانه «احتفاليات المومياء المتوحشة»
«مدينة الموت الجميل» إلى طرة. قال لأحد جنود الحراسة: «أنا صحافي وعضو اتحاد كتاب وأريد أن أزور معتقلاً اسمه محمد عفيفي مطر». غاب الجندي قليلاً وعاد ليصطحب الكفراوي إلى حجرة المأمور. كان جالساً وخلفه «صورة السيد الرئيس مبتهجاً وفارداً ذراعيه ناظراً إلى المستقبل بثقة المؤمنين». تأمل المأمور بطاقة اتحاد الكتاب وظنّ أنّ القاص موفد رسمي من هناك. ضغط الجرس وأمر أحد الجنود أن يحضر «الجدع اللي اسمه عفيفي». وجاء عفيفي مطر. «كان يتلفع برداء ريفي ويطوف على وجهه ذلك الحزن»، يقول الكفراوي. لم ينطق الصديقان بأي كلمة. تأمل الكفراوي ذلك «الجرح الممتد من الجبهة حتى أسفل الأنف، كان جرحاً شريراً وخائناً».
لم تكن هناك تهمة محددة بحق عفيفي مطر، إذ لفّقت له تهمة مضحكة مفادها أنّه يسعى إلى إنشاء تنظيم لحزب «البعث» في مصر! وكان الشاعر قد أقام سبع سنوات في بلاد الرافدين حيث عمل محرّراً في مجلة «الأقلام».
نقل الكفراوي ما رآه خارج أسوار المعتقل، فقامت الدنيا ولم تقعد. اتصل الصحافي محمد حسنين هيكل بإحدى القيادات في الدولة يسأل: «لماذا اعتقلتم عفيفي مطر؟». مجلة «الناقد» البيروتية أعدّت بدورها عدداً خاصاً عن الشاعر، وانهالت المقالات في صحف المعارضة تشيد به، وتنفي عنه اتهامات الحكومة. خرج مطر من هذه التجربة مهشماً. عندما زاره الناقد الراحل غالي شكري والشاعر عبد المعطي حجازي بعد الإفراج عنه، صرخ حجازي: «هذا إجرام وعار على أمة أن تعذّب شعراءها». خرج الراحل من تلك التجربة بديوانه الشهير «احتفاليات المومياء المتوحشة» (1992)، الذي تضمّن وقائع التعذيب البشع: «أقسى من الموتِ ارتعاشُ الموتِ في الشلوِ الذبيح».
محمد...