فكتوريا بريتن*
خلفيّة من صور لنساء محجّبات تماماً باللون الأسود، في مكان يلاحظ أنه لندن. خارج مسجد «ريجنت بارك» في يوم جمعة، قبل موعد الصلاة بقليل. مطاعم شارع إدجوير حيث يجلس رجال في الخارج، يدخنون الشيشة، ويقرأون الصحف، ويتبادلون الأحاديث. تمر من أمامهم مجموعة من النساء المحجّبات باللون الأسود، مع الكثير من الأطفال، ويتوقفن عند محال الخضار والفاكهة، حيث ترتفع أكوام الخضار المكدسة على الرصيف.
صور متداخلة لحادث تفجير سفارة شرق أفريقيا، واعتداءات ١١ أيلول (سبتمبر) في نيويورك، وتفجيرات لندن التي وقعت في تموز (يوليو) ٢٠٠٧، وباختصار شديد، عدد هائل من شرطة لندن، وسياراتهم وعرباتهم. صامتة. ظلام. تصوّب الإضاءة إلى الأعلى، ثم تنزل امرأة بمعطف طويل غامق، وعلى رأسها حجاب أبيض اللون. صباح، تجلس كما لو أنها أمام طاولة المطبخ. في مقدمة خشبة المسرح، وعلى الجانب، امرأة أخرى، ألكسيا، محجّبة تماماً في رداء وخمار بلون بني داكن. إنها تجلس في مدخل شقتها. تتحدث كل واحدة منهما إلى الجمهور كأن الأخرى غير موجودة:
ألكسيا: كانت السيعة قريب الستة الصبح، وكان جوزي في الصالون، لأنه كان مش ضايل إشي لوقت الصلاة، وأجولكم، كان في معهم وحدة لابسة بدلة زي الشباب، أجت وضوّت الضو، قمت أنا صحيت. وصرت أدوّر على إيشاربي... بدي أقوم أشوف شو صاير، إلا هي صارت تقول لي، استنّي شوي. ما كنتش فاهمة إشي، سمعت صوات ناس، وكان في ناس بيمشوا وهم يحكوا مع جوزي.
أجا جوزي عند باب غرفتي، بس ما خلهوش يفوت. قام قال لي أضبله أواعيه في شنطته، وأنا صرت أقول له: شو فيه ؟ إلا هو بيقول لي، «هدول جايين يعتقلوني. ولا أنا بقول له: طب ليش؟ كنت ميتة خوف. إلا هو بقول لي: «جايين يعتقلوني لأنه شاكّين إني إرهابي» ولسّة وقتها ما كنتش كتير بفهم إنجليزي، وصرت زي الأطرش في الزفة، ولا أنا فاهمة إشي. وصرت أبكي، إلا هو بيقولّي: «يلا بس ضبيلي الأواعي بالشنطة» وبعديها، راحوا... أخذوه معهم... كلبشوا ايديه، وما خلوهوش غير يقولي: سلامات.
صباح: أنا بكره أسمع حد بيدق عالباب. قلبي بينقز وبيصير يدق، وبرجع أتذكر هديك المرة لما أجوا الشرطة وما كانش جوزي في البيت. كانوا كتار يمكن فوق التلاتين واحد، وين ما تتطلع تلاقيهم، في الطابق الفوقاني، في الطابق التحتاني، في كل محل.
إمي، في هديك الليلة... صار وجهها أبيض متل قرص الجبنة، ولا نتفة لون، بس شافت كل هالشرطة جوا بيتنا، في نصاص الليالي.
بطلت أحب أشوف الشرطة بعد هالقصة، كل ما أشوفهم بتذكر اللي صار.
أخدونا على محل بعيد، على أوتيل. ولادي الصغار كلهم في البجامات، خايفين ومش فاهمين إشي، ليش حد فينا كان فاهم إشي يعني، ولا كنا فاهمين إشي.
الإشي اللي عمري ما بنساه، هو كيف صاروا الناس يتطلعوا فينا، أول ما وصلنا الأوتيل والشرطة جاررتنا. صاروا يبحلقوا فينا.... كإنا مجرمين. ولله كان إشي بموِّت من الخوف. والله ما قدرت أتحمل شوفة إمي بكل هالبهدلة.
ألكسيا: انولدت في فرنسا، بس كنا إيامات نروح على بلدي، عالسنغال. محل ما أسلمنا، بس أنا وأختي، مش باقي العيلة.
أبوي اتجوّز أكتر من وحدة، اتجوز خمسة ـــــ هيك العادة في بلدنا، مش بس للمسلمين. مرته الفرنسية ساكنة لحالها في بيتها في الريف في فرنسا. والتلاتة السنغاليات عايشات في نفس الدار مع بعض، زي الأخوات، كلهم بقول لهم يما، كلهم داروا بالهم علينا زي بعض واحنا زغار،واحنا الخوات كنا مع بعض متل الخوات العاديات. كنا دايماً مبسوطين مع بعض.
أنا كنت ألعب كرة السلة ـــــ كنت أحبها كتير، كنت أحبها عنجد. ما أنا طويلة، عشان هيك كنت أزبط كتير فيها.
وكان الوضع منيح هون في بريطانيا، بتقدر الوحدة تلبس منديل وما حدا يتطلع، مش زي فرنسا، الله يعين المسلمين اللي هناك قد ما عيشتهم صعبة. كنت أشلح المنديل كل ما بدي أطلع في اليوروستار عشان أزور إمي. التقيت أنا وجوزي في دار وحدة من صاحباتي، اتجوزنا عن حب ـــــ كان وجهه حلو، وكان دايماً يبتسم ويضحك. وأهلي وافقوا بسهولة زي ما انتوا عارفين، مهو أبوي اتجوز وحدة جزائرية كمان.
ياسمين: لما كنت بنت زغيرة في الأردن، ما عمري بعدت عن أهلي، أو عن خواتي الستة وإخواني الأربعة. كنت أنا الكبيرة، وكنت مميزة، مدللة... شعري كان خميل ومجعد، وكان طويل كتير يوصل لتحت خصري، مرات كنت أقعد فوقه قد ما هو طويل ـــــ هداك الشعر اللي الإمايات بيحبوا يضلوا يمشطوه ويمشطوه بدون ما يزهقوا.
تربينا في جو تقاليد وأخلاق، وتربينا إنو نحترمهم، كل الكبار، إمي وستي، نبوس إيديهم، ودايماً نقعد على الأرض وهمة على الكراسي. كنا دايماً مع بعض ـــــ في كل دقيقة ـــــ دايماً نبتسم، دايماً نضحك. وقتها كنت ألبس تنانير قصيرة، وأواعي بتجنن ـــــ كنت ضعيفة كتير وقتها، رف، رفع الأصبع، حتى أضعف من بناتي هلأ.
كنت أنا حبيبة الكتب في العيلة، دايماً في إيدي كتاب. عمرها ما إمي علمتني أطبخ، كانت دايماً تخليني أدرس. المطبخ كان مركز كلشي في دارنا ـــــ كانت الروايح اللي تطلع منه تعبّي الدنيا، وإمي كانت دايماً فيه، تطبخ وتستخدم البهارات، والمكسرات والعسل.... والحب، يا الله شو كانت تحبني.
ما كانتش تقدر تفارقني... ولا ستي.
لما كانت إمي تبعتني أجيب شغلة، كانت ستي تقول لي: «شوفي، هي بدي أتف على هالصخرة، بدي أشوفك هون قبل ما تنشف التفة».
بيتنا كان دايماً مفتوح، ٢٤ ساعة في اليوم، أي واحد حابب يضيّف عنا، كان فيه يدخل إيمتا ما بدّه ـــــ هيك كانت حياتنا الطبيعية الحلوة.
لما أجو الفلسطينية بعد النكبة في الـ٤٨، تقاسمنا معهم كلشي، الأرض، البيت، الأكل، وكل إشي. كانت التقاليد تحكم كلشي، مساعدة الجيران، والمحتاجين. هدا اللي كنا نسوّيه هديك الأيام، يعني هيك كانت طبيعتنا. هيك كانت حياتنا ـــــ مشغولين، مبسوطين، عايشين في أمان، وهيك.
أبوي وحماتي ولاد عم، بس ما كناش نشوف عيلته كتير، كانوا عايشين في بلد تانية، مش الكرك، محل ما كنت ساكنة أنا، قريب البحر الميت.
اكتشفت بعدين إنه جوزي شافني لما كان عمري ١٤ سنة، وقرر من وقتها إنه بدو اياني أنا. بس أنا ما كنتش أعرف، وعمري ما فكرت فيه بهالطريقة. لما طلب إيدي، كان عمرنا ١٩ سنة، وقال لي إني ضليت في باله سنين... كان كتير حلو اللي صار... يعني مشاعر بتقدروش تعبروا عنها. في عرسنا، بدلت سبع بدلات، لبست كل بدلة عشر دقايق أو أكثر شوي، وفي كل بدلة أمشي بين النسوان وهمة يغنّولي ويرقصولي. بدلة العرس نفسها كانت بيضا، أكيد، وبعدين لبست بدلة حمرا، وبعدين وحدة لونها دهبي على بردقاني، ووحدة أزرق فاتح وفيها شوية زهري، نتفة هيك، مش زهري بالزبط، مشمشي، لا كانت زرقة، زرقة. والله ما أنا متزكرة بالزبط. وبعديها صرت ألبس هدول البدلات على الحفلات، كنت أحبهم كلهم.
رحنا على الباكستان عشان كان بدو يكمل دراسته. كنت متضايقة كتير كتير ومش حابّة أروح. وإمي كانت متنكّدة من روحتي أكتر مني حتى. كنت خايفة... أول مرة بحياتي بترك البيت... أول تضحية بضطر أعملها.
وهناك في الباكستان، كنت متل اللي قاعدة على جمر كل الوقت ـــــ ما كنتش طايقة أستنا الدقيقة اللي بدو يخلص فيها دراسته عشان نرجع عالأردن ـــــ وتكون إمي وأهلي حوالي ـــــ وأرجع لحياة زمان الحلوة.
بس الأمور كانت متوترة لما رجعنا على الأردن، كان هدا الحكي قريب ما صارت حرب الخليج. كان جوزي يحب يلبس الأواعي الباكستانية الواسعة، وكانت مريحة كتير إله، بس ما كانش منيح هالحكي، الشرطة ما عجبهاش الوضع ـــــ كانوا يدوّروا على ناس يقدروا يقولوا عنهم متطرفين.
واعتقلوه.
كنت عارفة ومتأكدة... كنت عارفة إنهم عذّبوه. خفوه أكم من شهر.

صور متداخلة لاعتداءات ١١ أيلول (سبتمبر)، وتفجيرات لندن وعدد هائل من رجال الشرطة
لما شفته، كان معه شلل جزئي.
ووقتها، فكرت إنو حياتي السعيدة ضاعت.
الصليب الأحمر أعطاه أدلة عن اللي صار معه، وشو سووله في السجن، ولما راح على بريطانيا أعطوه وراق إنه لاجئ. هدا الحكي صار في الـ٩١. حسّينا بالأمان، هون في لندن. يا الله شو ارتاح بالنا، زي بق المي الباردة.
نور: أول ما تجوزت، كان الوضع كتير، كتير صعب... عمري بحياتي ما قعدت لحالي في الأردن ـــــ دايماً مع خواتي التلاتي وخواني الأربعة. وبعديها، رحنا على الباكستان، وصرت أضل لحالي في بيتنا لما جوزي كان يطلع. كان أصعب إشي عليّ، لما يطلع في الليل على الجامع.
بس ما إنتو عارفين، الإسلام بيوصي عالطاعة، وأنا قبلت فيها.
جوزي كان زلمة كتير منيح. كنا مبسوطين في الباكستان، كنت أعلم في مدرسة، ومحمد كان يعمل الإشي اللي بيبسطه، كان يحب يساعد الناس، زي الأيتام ـــــ وكل حدا كان يتعرف عليه من حياته في غزة ـــــ هو أصله من غزة، وأنا فلسطينية كمان، من الخليل.
طلعنا من هناك بسرعة، زينا زي غيرنا، فجأة صارت الحكومة الباكستانية تعمل مشاكل للعرب ـــــ هدا الحكي صار بعد ما انهزموا السوفيتية في أفغانستان. والله ما بعرف ليش يعني جينا على بريطانيا بالزات، جوزي عمره ما ناقشني في الموضوع. أظن إنه عشان صحابه كانوا جايين على هون كمان.

* صحافيّة وكاتبة بريطانيّة وعضو مؤسس لـ«احتفالية فلسطين للأدب». مقاطع من عرض «انتظار» الذي حقق إقبالاً في لندن خلال شهر آذار (مارس) ٢٠١٠، وتترافق فيه الموسيقى مع كلام زوجات المعتقلين.