في «بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير»، يجمعنا الروائي العراقي بندمائه: من سارتر وهنري ميلر وإدوار سعيد إلى أورهان باموق ولوكليزيو. كتاب في مديح القراءة، من نوع تفتقده المكتبة العربيّة
حسين بن حمزة
يتخيّل علي بدر حفلة، أو مهرجاناً للكتّاب يشبه المهرجانات التي تحتفل عادةً بنجوم السينما. الحفلة هنا هي ممارسة إجرائية لضمان وتبرير حضور عدد كبير من «نجوم» الثقافة والأدب، ذوي الأهواء والإنجازات المختلفة في كتابٍ واحد، ولكن المقترح الإجرائي يشتغل بطريقة أعمق وأكثر خصوبةً في «بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير»، الكتاب الجديد الذي أصدره الروائي العراقي عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».
يكتب صاحب «بابا سارتر» عن فلاسفة وروائيين وشعراء ومسرحيين من خلال تجوالٍ كيفي بين سطور مؤلفاتهم، مانحاً القارئ خلاصاتٍ وتأملاتٍ في مناخات أدبية وفلسفية متنوعة. إنه كتابٌ عن مؤلفين وعن كتبهم، لكنه لا يضمُّ مراجعات مضجرة أو قراءات تقليدية في محتويات هذه الكتب. إنها قراءات بالطبع، ولكنها منجزة بطريقة جذابة وذكية وقادرة على إثارة حشرية القارئ وحماسته.
يثير المؤلف فضولنا منذ البداية، حين يروي في المقدمة شغفه الشخصي بالقراءة، متذكراً أن القراءة لازمته حتى في خدمته العسكرية أثناء الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، حيث «كان للكلمات وقعٌ أكبر من صوت المدافع والرصاص» في ذهن الشاب الذي لشدة تعلّقه بالكتب خاطت له والدته «جيباً داخلياً في القمصلة العسكرية ليحوي على الأقل كتاباً أو كتابين (...) وفي ساعات الاستراحة، أجلس منعزلاً عن الجنود وأغرق في كتابي. كنتُ موجوداً بين القتلى أو الموتى المؤجلين، وحتى أنا كنت مقتولاً لا محالة، ولكني أشعر بنفسي جالساً مثل مشمشة برية نبتت خارج أحجار السور». القراءة، بهذا المعنى، كانت بديلاً عن واقع رهيب، ولكن أليست الكتب فرصة أبدية لتخيُّل حيواتٍ وعوالم بديلة؟

الكتابة تتغذَّى من تراكم بطيء وخصب لتجارب الآخرين

تبدأ حفلة الكتاب المتخيَّلة بدخول جان بول سارتر، وتنتهي بألبرتو مورافيا، وبينهما يمرُّ مؤلفون من جنسيات وجغرافيات ومخيّلات وأساليب مختلفة: من رامبو الذي مزَّق كل لغة وخرَّب كل قول، وهشَّم كل صورة ورأى ما لا يراه الآخرون، إلى بول ريكور الفيلسوف الأخلاقي الفرنسي الذي حورب في بلده، واختار الطرق الملتوية والقراءات العميقة والسجالات المتجددة في صياغة أفكاره الفلسفية. من آسيا جبار، مرشحتنا الجزائرية على قائمة «نوبل» التي لا نعرف الكثير عن منجزها الروائي باللغة الفرنسية، إلى إدوارد سعيد المثقف النقدي الجذري الذي صنع منظومة كاملة من الأفكار النابعة من سياسات المثقف لا من الثقافة السياسية. من نصوص الفريدة يلينك المتوغلة في فضح فاشية المجتمع النمساوي، والقهر والتدمير والفناء الذي تعيشه النساء، إلى إيروسية هنري ميلر ولغته الممجّدة للتشرد والقذارة والصخب واللذة. من الشخصيات القلقة وهوياتها المتصدعة في مسرح هارولد بنتر إلى غرائبية بورخيس وقصصه الفانتازية. من إسطنبول والماضي التركي في روايات أورهان باموق، إلى بوهيمية جان جينيه ومناهضته للزيف الاجتماعي والسياسي. من عوالم الأفغاني عتيق رحيمي الحاصل على «غونكور» إلى عوالم الروسي ميخائيل بولغاكوف صاحب «المعلم ومارغريتا». من سيزار إيميه إلى فرانسواز ساغان. من أبولينير إلى لوكليزيو ... وهكذا. إنها عيّنات من الأسماء الحاضرة في الكتاب، الذي يُفترض أن يُستكمل بأجزاء أخرى.
بطريقة ما، يمكن القول إن الكتاب مديح طويل وشاسع للقراءة، إذْ تتحرك تحت سطح فصوله تلك المتعة السرية والعارمة المتحصِّلة من مجالسة الكلمات والتجوال في عوالم أصحابها. كتَّاب أحياء وآخرون راحلون صنع كل واحد منهم اسماً ونبرة وإرثاً.
نتحسّس فكرة الخلود الموجودة في الأفكار، والأطروحات، والنضالات التي تتحول إلى تراث كوني، صالح للاستعادة والتعديل والاستثمار والاستمرار. كأنّ صاحب «ملوك الرمال» يؤكّد فكرة أن القراءة جزء جوهري في عملية الكتابة التي تتغذَّى من تراكمٍ بطيء وخصب لتجارب آلاف الشعراء والروائيين والمفكرين والفلاسفة. كأن الكتب المذكورة في الكتاب اعتراف من المؤلف بعناصر ومكوّنات ومناخات تسرَّبت إلى أعماله مثلما تسربت وستتسرّب إلى عوالم آلاف الكتّاب الآخرين.
لا نتحدث هنا عن تفاصيل وتقنيات الكتابة فقط، بل عن الاحتياطي الخلّاق الذي تصنعه التجارب العالمية المختلفة في الكتابة. ما اختاره علي بدر لنا هو نموذج بارع لجمع قراءات ذاتية ووضعها برسم القارئ. نقرأ الكتاب، ونحس أن المكتبة العربية تفتقد هذا النوع من المؤلفات التي تقدّم نكهة موسوعية ودقيقة في آنٍ واحد.