بوليكيفيتش جسد في الاتجاه المعاكسسارة صحناوي
أحدثت «محاولة أولى» تحوّلاً صعباً في مشهد الرقص الشرقي الاعتيادي، منذ عرضها للمرة الأولى في خريف 2009. العرض الذي تحتضنه خشبة «دوار الشمس» (الطيونة/ بيروت) الليلة، ضمن إطار «مهرجان الربيع»، اقتراح مسرحي فريد، يقوم على ثلاثة أفراد: الراقص ألكسندر بوليكيفيتش، وعازف الساكسوفون ستيفان ريفز، ومخرجة الفيديو كارا لينش. يرتسم الأداء وفق مستويات عدة تدعم محاولة الراقص ضمن أداء في الاتجاه المعاكس. هذا العرض انتقال وانحراف نحو مشاهدات أخرى، وتطوّر في لوحات يجرّد خلالها بوليكيفيتش الرقص الشرقي من رموزه: جسد المرأة المكتنز، وشهوانيّة الراقصة، والثوب الملائم، والموسيقى الفرحة والحماسيّة التي تحرّك الأجساد، وأمكنة اللهو المعتادة.
الفكرة مشغولة بمنهجيّة، بعمق يقنعنا بالمبادرة بحدّ ذاتها، وبالأسلوب الذي اختير لتنفيذها. يقوم الإخراج على تدرّج العرض من مستوى إلى آخر، من دون المبالغة في التعبيريّة أو الزخرفة، كما تبرزان في بعض تيّارات الرقص المعاصر. في البداية، يظهر بوليكيفيتش على الخشبة في لباس ملتصق بجسده، ليعرض ما هو أساسي: الجسد، والحركة، والسكينة. بعدها يعود الراقص، تدريجاً، إلى مواضيع الرقص الشرقي المعتادة، مع حفاظه على الفارق الزمني مع الماضي، قبل أن ينتهي الأداء في إطار شامل مثقل بالانفعالات.
هكذا تبدأ «محاولة أولى» من دون توثّبات، وفي أجواء فرحة. يستقبلنا في الصالة عرض فيديو تظهر فيه راقصات شرقيّات كثيرات، ثم يُقطع الصوت والصورة ليصبح المسرح من دون ديكور. يضع الراقص سمّاعتيه فيحجب عنّا الموسيقى، كمن يضعنا أمام أمر واقع، هو غياب اللهو.
دخوله إلى المسرح هو نوع من تحمية، قوامها حركات بسيطة ذات طابع شهواني. إنّه يحتفظ بجوهر الرقص الشرقي المطيّب بروح الفكاهة. حركاته منهجيّة وبسيطة، بينما أنفاسه، وصوت احتكاك خطاه بالأرض، تشير إلى الحرارة والانفعال المكتوم. ينزع الراقص سمّاعتيه ويزيّن رقصته بنغمات صوتيّة خبيثة وبذيئة بعض الشيء، يمكنها أن تثير حضوراً غائباً ميّالاً الى الهيجان. وهي توحي أيضاً بالحضور الآخر، الخيالي الذي قد يلقي نظرة الرغبة، على أطراف الراقص المحمومة.

الأدوار هنا اختلطت، والراقص لا يرقص إلا لذاته
هنا يدخل ستيفان ريفز مع آلته الساكسوفون، إلى حيّز العرض، ليؤدي بعض النوتات والخطوات الحالمة. تهيّئ المخرجة كارا لينش أدواتها، ليبدأ عندئذ لقاء ثلاثي غير مألوف... الراقص ينظر في عين الكاميرا التي تتابع خطواته، وتلتقي الطاقة الجسديّة بالطاقة الموسيقيّة. يبلغ التفاعل بين صوت الساكسوفون والرقص ذروته حين يردّ الراقص على ديناميّة الموسيقى، وتقبل الموسيقى مشاركته في الرقص. إنها لحظة جميلة، محفّزة ومتحدّية، قويّة وساحرة.
أبعد من اللذة والغبطة التي قد تقدّمها لنا الراقصة الشرقية، يشعرنا الأداء بمجهود الراقص، ورغبته في الانضمام إلى موسيقى تحمله من عمق الموجة إلى قمّتها، وتجعل إمكان انخطافه أكثر انتشائيّة من المتوقّع. يتكرّر هذا الشكل وفق إيقاع متصاعد يمتزج داخل كثافة الموسيقى وذلك حتى... الإعياء.
نقطة النهاية تبدو كمدخل لعرض مستقلّ... صوت الساكسوفون مرتفع وحاد. وينتشر بطريقة حاسمة ومباشرة مغلّفاً الجسد. هذا الجسد يبقى مشدوداً نحونا. نرى فوراً تغييراً ما، ونشعر بوجود رهيب، وبضغط غير متوقّع. اختفت الشهوانيّة وأصبحت النشوة من نوع آخر. هوى الجسد في حركيّة مضادّة للتناغم، وفي جماليّة البشاعة والألم. إذا كانت الراقصة الشرقية ترقص من أجل الآخر، من أجل تلك الصورة الذكورية، فإن الأدوار هنا اختلطت. ليس فقط لأن الراقصة اختفت، بل أيضاً لأن الراقص لا يرقص إلا لذاته. يرقص ليستحوذ علينا، وعلى المسرح كمساحة وفكرة. يجذب كل ذلك نحوه كي يحقّق التغيير الذي يسعى إليه. إن محرّك هذه المحاولة هو ربما حاجة عميقة ورغبة في التحرّر.


مساء اليوم ــــ مسرح «دوّار الشمس» (الطيونة/ بيروت). للاستعلام: 381290/01