Strong>أيقونات وتفاصيل حميمة على أرضيّة من الدانتيلاتغرف من الثقافة الشعبيّة، وتشتغل على العناصر الهامشيّة التي تتحكّم بعلاقتنا البصرية مع محيطنا، وتُعلي من شأن المُهمل لتضعه في دائرة الضوء. الفنانة التي شيّدت «برج الأمل» من الطوب الأحمر على ارتفاع تسعة أمتار، تعود بالكولاج والصورة لتفتح لنا «أجندة المستقبل». جولة في أرجاء معرضها الحالي في دبي

دبي ـــ حازم سليمان
تتطلب زيارة معرض لارا بلدي (1969) في «غاليري إيزابيلا» في دبي، التسلح بعدد كاف من السجائر، والفضول، والرغبة في الاستسلام لمشاعر متضاربة. هذه الأحاسيس منبعها 18 عملاً تضعنا فيها الفنانة اللبنانية المقيمة في مصر أمام فيض من فناجين القهوة المشروبة على عجل، أو ببطء صباحات نسوية تبحث عن رمز أو إشارة لبشارة قد تتحقق بعد حين. الشروط الثلاثة السابقة قد تكون وصفة مثالية لمعرض لا تخلو أعماله من سطوة ما، ولا يمكن التخلّص من تأثيره إلا بالامتثال لنوازع عاطفية عدة، ولذاكرة قديمة، وأحلام ضاعت بالجملة، غير مشفوعة بكل النبوءات المنزلية، وسيل من الدعاء غير المستجاب.
معرض «أجندة المستقبل» الذي يستمر حتى 6 حزيران (يونيو) المقبل، هو امتداد لاشتغال هذه الفنانة على انتشال المغمور والهامشي في علاقتنا البصرية مع محيطنا، وإعلاء شأن هذا المُهمل ووضعه في دائرة الضوء. كأنها تُعيد خلق مواجهة مع الزمن الداخلي لما نعتقده أشياء جامدة. الأشياء عند لارا بلدي لا تصير بلا فائدة بعدما نتخلى عنها. هي دلائل مؤكّدة تستند إليها في رصد لحالات النكران والضياع والتحولات النفسية العميقة التي نمر بها.
الأمل الذي بنته الفنانة على شكل بُرج فاز بالجائزة الكبرى في «بينالي القاهرة الدولي» (2009). نراه اليوم على شكل صور فوتوغرافية وكولاج. ثمة خطاب بصري مباشر، ودعوة إلى التمسك بالمستقبل، ولو كان عبر إشارات صغيرة قد تبدو تافهة لبعضهم. تقول بلدي «قراءة الفنجان كانت تعطي دوماً الأمل في المستقبل، مهما كان حجم الانتكاسات في حياتنا اليومية. أنا لا أدعو الناس إلى الارتماء في عالم التبصير، فالفن لم يكن يوماً إلا محايداً. لا أحد يمكنه محاسبة الفنان على خياله المأخوذ من الواقع، إلا إذا أخفق فنياً فهذا أمر آخر».
خطاب مباشر، ودعوة إلى التمسك بالمستقبل ولو عبر إشارات صغيرة
تضعنا لارا بلدي التي صار اسمها معروفاً على نطاق واسع، أمام ملمحين فنّيين أساسيين: الكولاج والفوتوغراف. في الأول، تأخذ الأعمال بعداً تزينيّاً، ومناخاً بصرياً تنقل فيه فناجين القهوة من راهنها المباشر في الصورة، إلى فضاء يعزز بُعدها الرمزي. نرى أيقونات وتعريقات وتفاصيل حميمة، تجتمع وفق إيقاع مدروس على أرضية من الدانتيلا أو مفارش الطاولات المصنوعة يدوياً. عملها «الوردة» فيه مهارة كبيرة في التأسيس لمشهد لا يخلو من هندسية وحسابات دقيقة لعلاقة عناصر، وتفاصيل العمل المبني بطريقة مُحكمة. في هذا العمل وفي آخر بعنوان «في عين آدم»، تُعلي لارا من شأن الحلم في حكائية مبطّنة، واستعادة لأزمنة مرمّزة بإشارات حميمية صغيرة، وعاطفة شخصية معهودة في أعمالها بصورة عامة.
هل ثمة شعبنة للموضوع في هذا المعرض؟ ربما. اتّكاء الفنانة على مواضيع أساسية في حياة الناس ليس جديداً. عينها صيادة ماهرة للتفاصيل الصغيرة المتروكة. قلما نجد في أعمالها ملمحاً بشرياً مباشراً بقدر اهتمامها بأشياء بسيطة تروي الكثير من الحكايا.
علاقة لارا بلدي مع فنجان القهوة تعود إلى معرض سابق لها في دبي، حمل عنوان «سطح الوقت»، قدّمت فيه عملاً جسّد رواسب فناجين القهوة. هذه المرّة نحن أمام مئات الفناجين، في وضعيات وأشكال مختلفة. هي نتاج لجلسات عائلية، وزيارات لا حصر لها في مناسبات سعيدة أو حزينة. وفي المحصلة، نحن أمام علاقة يمكن تأويلها بأكثر من طريقة، لارتباط الناس بالأمنيات المخبوءة بين خطوط وتعرجات «تفل» القهوة في الفناجين المقلوبة: السمكة هي رزقة. والحصان يعني عريساً. والبندقية خبراً. عالم كامل يمكن الاتكال عليه، والمضيّ قدماً مهما كان حجم الخيبات اليوميةتيمة التكرار المثير للقلق صفة لازمت تجارب بلدي الفوتوغرافية. هذا الرصد الدقيق لمئات من وضعيات الشكل الواحد يعوق الاكتفاء برؤية شمولية للعمل، ويصير الولوج إلى التفاصيل ضرورة حتمية. عملها الضخم «مصائر نسبية» (220 ×980) يترك تأثيرات نفسية مباشرة. إرضاء فضول المتلقي هنا، مشروط بالاستسلام لما تمليه عليه متاهة من التعبيرات والرموز. وبينما يفرض هذا العمل ثقلاً محيّراً، نظراً إلى افتقاره سمة التسلسل، تربط بلدي تفاصيل عملها الجداري «مرتب زمنياً» (420 × 440) بتواريخ وتواقيع وانطباعات مكتوبة. هذا العمل يأخذ سمة التوثيق. يمكننا أن نعرف مثلاً التاريخ الذي شُرب فيه الفنجان. تربط بلدي صورها في هذا العمل بوقائع محددة وتُكسبها مرجعية حياتية، تترجّل بها من مكانها الذي يبدو متعالياً ومُشفّراً، إلى منطقة محسوسة، تضفي ملمحاً شخصياً على أعمال ذات طابع جماعي.
لارا بلدي فنانة التفاصيل بامتياز. ميلها الواضح إلى تعقب ما يُهمله الناس، قادها إلى مساحات متجددة ومفاجئة من التجريب، وصولاً بالعمل الفني إلى مستويات تقترن بالدهشة والاستفزاز. تقول: «تصوير الإنسان في أعمالي ليس ضرورةً، بقدر اهتمامي بأغراضه التي تروي تفاصيل حياته ويومياته... الأشياء التي يستخدمها الإنسان تروي تفاصيل سيرته أكثر مما تحكي عنه شخصياً».

حتى 6 حزيران (يونيو) ــــ «غاليري إيزابيلا» دبي (القوز1) ــــ للاستعلام: 0097143403965