امرأة مرّت في أحد شوارع روما ألهمته رائعته «الحياة الحلوة». السينمائي الذي لم يكن يشاهد أفلامه بعد إنجازها، يفرد بعض سيرته في «كيف أصنع فيلماً». بيان فنّي عن صناعة السينما كمغامرة عاشقة
خليل صويلح
«الفيلم الذي نتوهم أننا لسنا إلا مجرد مشاهدين له، إنّما هو قصة حياتنا». بهذه الكلمات يختم الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو مقدّمة كتاب «كيف أصنع فيلماً» لفيدريكو فيلليني (1920 ـــــ 1993). تبقى سيرة المعلّم الإيطالي مشحونة بالاضطراب والقلق والمغامرة. الشاب الريفي شديد الانطواء والتوحّد، بدأ كاتب سيناريو مغموراً ورسام كاريكاتور في إحدى الصحف ورسام بورتريهات. لاحقاً، اقتحم السينما من أوسع أبوابها مفتوناً بمعلّمه روبيرتو روسيلليني، ويترك بصمته الخاصة على ما عرف بالواقعية الإيطالية الجديدة. في «كيف أصنع فيلماً» («المؤسسة العامة للسينما» ـــــ دمشق؛ تعريب: نبيل أبو صعب وإيليا قجميني)، نتعرّف عن كثب إلى أسرار المطبخ السينمائي لصاحب «لا دولتشي فيتا». الكتاب الذي صدر عن دار «سوي» الفرنسيّة بعد رحيل السينمائي بثلاثة أعوام، سيرة وبيان فنّي.
«إخراج الفيلم هو أشبه دائماً بسيطرة كريستوف كولومبس على طاقمه من البحارة الذين أرادوا التراجع»، يكتب. هكذا يبحر في تلك السفينة مساعداً لروسيلليني «ابن العاصمة» الذي ساعده «على اجتياز الشارع». هنا، يلتقط تفاصيل صناعة شريط يضج بالحياة في «مغامرة رائعة جديرة بأن تعاش، وفي الوقت نفسه بأن تُروى». ينفي فيلليني وجود فلسفة خاصة لديه في صناعة أفلامه، ويجيب ببساطة عن أسئلة محاوره «أعتقد أني أصنع الأفلام، لأني لا أعرف صناعة أي شيء آخر»، قبل أن يستدرك قائلاً: «ربما هي الرغبة في أن أصبح النبي والشاهد والمهرّج».
نفى أن تكون أفلامه سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه
لا يميل صاحب «بروفة الأوركسترا» إلى إضفاء جمل رنّانة على كيفية بناء عمارة الفيلم، وولادة الفكرة. يقول ببساطة في استذكار الشرارة الأولى لفيلمه «الحياة الحلوة» إن الفكرة أتته عبر ظهور امرأة. رآها ذات صباح مشرق تسير في شارع فينتو، مرتدية ثوباً «جعلها تشبه أحد أنواع الخضر». لكن الشريط سيذهب لاحقاً إلى مناطق أخرى معقّدة ومشوشة وغامضة. كان فيلليني يتأبط على الدوام مفكرة صغيرة لتسجيل مشاهد محتملة. كان يرسم أيضاً فضاء المشهد وأشكال الشخصيات كنوع من التورّط في كتابة القصة التي ستنتهي إلى مسالك غير متوقعة لحظة التصوير ووفقاً «لنواة الخيال». يوضح صاحب «الطريق»: «لا تعود الألوان هي الألوان التي حلمت بها، وعندئذٍ لا يعود المنظور المتخيّل من بعد سوى الأفق المجرد للديكور». حسناً. لقد انتهى تصوير الفيلم من دون انضباط عسكري، لكنّ الجلوس أمام «المافيولا» لتقطيع النيغاتيف لحظة مقدسة لا تحتمل أي نوع من الفوضى. ذلك أن المافيولا كما يقول هي «غرفة الجراحة»... أما النتيجة النهائية فيحددها «مشغل الخياطة».
ينفي فيلليني أنّ أفلامه سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه، حتّى وإن كانت تروي فصولاً من حياته. هي سيرة روما على الأرجح في المقام الأول. هي أيضاً حنين إلى اختراع أحلام وذكريات وأرواح: «إنّ ما أعرفه هو أن لديّ رغبة في القصّ، ويبدو لي بصدق، أن القصّ هو اللعبة الوحيدة التي تستحق أن تُلعب».
لم يشاهد صاحب «روما» واحداً من أفلامه أثناء عرضها الجماهيري. السينما بالنسبة إليه صالة تفور بالصوت والعرق والمرشدات والكستناء المشوية، وتبوّل الأطفال... «جوّ من أجواء نهاية العالم، والكارثة، وكبسات الشرطة». يؤكد أن «نقزة» تصيبه حين يحدثه أحدهم عن أفلامه، «كما لو أن أحداً اكتشف فجأة أني لم أدفع الضرائب، أو كما لو أن زوج إحدى الجميلات قد اكتشف كل شيء... ويبحث عني».
في ملحق الكتاب، نقع على نسخة كاملة من سيناريو «الحياة الحلوة» (1960) إحدى المحطات الأساسية المبكرة في تجربة فيلليني. الشريط الذي أدى بطولته مارتشيلو ماستروياني في دور صحافي، يصوّر روما كبؤرة للفساد والملذات الحسيّة بسرد هذياني آسر للحياة الإيطالية المعاصرة.
تكتب ليليانا بيتي في تقديمها للطبعة الألمانية من الكتاب بأنّ هذه المراجعة الصارمة لأرشيف فيلليني تبدو كنوع من قفص يؤطّر سيرة شخص أشبه بأيقونة... لكنّه في الواقع فرد مثقل بالارتباكات الشخصية والرضوض العصابية والحياء الريفي، إلى درجة لم ينظر فيها إلى نفسه بعين الرضى أبداً. «عمل ساعياً بجهد لتدمير كل شهادة عنه، بنوع من الممارسة المرحة لنفي الذات». نتذكّر هنا شريط «ثمانية ونصف» الذي يكشف جوانب أساسيّة من تلك الشخصيّة القلقة.