حلقة «كلام الناس» بُثّت مباشرة من حيّ الجميزة الذي تحوّلت «شهرته العالميّة» إلى لعنة تلاحق الجميع. سكان يعيشون في الجحيم، وأصحاب حانات قلقون على البزنس: ضحايا سياسة الارتجال والفساد جاؤوا إلى «الأغورا» رافعين عرضحالاتهم إلى وزير السياحة، وتداولوا في المشكلات والحلول
بيار أبي صعب
التلفزيون في الشارع، تحت شرفتك. اكتشفَ سكان ذلك الحي البيروتي بشيء من الدهشة، أن الحدث كان عندهم تلك الليلة، أو أنّهم كانوا في قلب الحدث. كان لديهم الخيار بين أن يشاهدوا التلفزيون في الصالون، أو أن يطلّوا من النافذة ويلتفتوا إلى الخارج، إلى الأسفل، كي يتابعوا الحلقة نفسها «لايف»... أو أن ينزلوا من بيوتهم، ويختلطوا بالجموع و... يشاركوا في النقاش مباشرة على الهواء، فيستمع إليهم العالم! إنّها «الأغورا» بامتياز في صيغتها المعاصرة، أعاد اختراعها مارسيل غانم، على طريقته، عبر تلفزيون lbc. مع ما تنطوي عليه من مفاجآت، ومن مخاطر الفوضى أو الشعبويّة أو التسطيح، فضلاً عن تسخير قضايا حسّاسة لخدمة «الاستعراض» في النهاية. لكن النتيجة لم تكن مخيّبة للآمال.
لا يحدث ذلك كل يوم، وخصوصاً حيث يتعلّق الأمر بالبرامج الحواريّة الرصينة، سياسيّة كانت أو اجتماعيّة. البرامج الحواريّة على المحطات العربيّة، وخصوصاً حين تكون سجاليّة وصاخبة ومتعددة الأطراف، تستكين إلى فضاء الاستوديو المغلق، حيث كل شيء مضبوط ومدروس بعناية وتحت السيطرة. مارسيل غانم نقل التلفزيون إلى «مسرح الجريمة» إذا جاز التعبير، مساء أوّل من أمس، واثقاً من قدرته على ضبط الحلبة. لقد قدّم «كلام الناس» في بثّ مباشر من شارع غورو في الجمّيزة: ذلك الحيّ الذي تحوّلت «شهرته» مع الوقت إلى لعنة حقيقيّة، إلى معضلة سكانية، واجتماعيّة، وبيئيّة، ومدنيّة، وعقاريّة، واقتصاديّة، وإنسانيّة... بعد أيّام على حركة الاحتجاج التي قام بها سكان الحيّ، مطالبين بوضع حدّ لهذا الجنون الذي فتك بحياتهم، زرع برنامج «كلام الناس» ديكوره في الشارع «الملعون»، وجمع كل أطراف المعادلة الصعبة في واحدة من تلك المواجهات المستعصية التي يملك مارسيل سرّها: أهل الحيّ الغاضبون، أصحاب الملاهي والمطاعم والبارات التي تسمّى في لبنان تجاوزاً Pubs، بعض أعيان الحيّ ونخبه من مهندسين ومبدعين وناشطين (حبيب دبس، جو قديح، فضل الله داغر)، مواطنون وعابرو سبيل و... valet parking. وفي وسط الحلبة، عرضة للنيران من كل اتجاه، وزير السياحة فادي عبّود الذي لفت الأنظار بهدوئه وعقلانيّته، وإلمامه الدقيق بالملف، وقدرته على التفاعل والإصغاء، وعلى تحمّل نقد بلغ حدّ التجريح المجّاني أحياناً.
هذا الشكل من «الديموقراطيّة المباشرة» ـــــ مع ما يمكن أن يثيره من حذر ـــــ قد يكون صحيّاً ومطلوباً في بلد لا يستمع فيه الناس بعضهم إلى البعض الآخر، ولا يشهد أي حوار أفقي أو عمودي بين أهل الحاضرة، أو بينهم وبين حكّامهم. كيف نضع حدّاً لهذا الجنون؟ كيف نوفّق بين سكان يشعرون بالاضطهاد والاعتداء اليومي عليهم، ومستثمرين يرددون كلمات مثل: فرص العمل والسياحة و«الشهرة العالميّة» للجميزة فيما يقف الحيّ على حافة الانفجار؟ تكلّم الجميع، بحدة أحياناً وانفعال غالباً. عرفنا الجيران بأسمائهم الأولى، أو بأسماء عائلاتهم، وكذلك أصحاب البارات التي أغلق بعضها على أثر التحرّك الأهلي الأخير. النائب إيلي ماروني كان على بضع خطوات من مكان التصوير، لكنّه فضّل أن يظهر في البرنامج، بداية، من أحد تلك الملاهي التي طالها أمر الإغلاق. وزير السياحة السابق الذي صرعنا في الماضي بالـ«لبننة»، فيما المستثمرون العرب يشترون عقارات الأشرفيّة، هو إذاً في موقع الدفاع عن البزنس ومصالح أصحابه، هو الذي أغرق بالتراخيص والملاهي هذا الحيّ «ذي الطابع التراثي»، كما تذكّر لوحات بليدة هنا وهناك.

إذا نجح الوزير عبّود في إصلاح الجمّيزة، فسنستنتج أن إصلاح لبنان... ما زال ممكناً!

عادت الجميزة حارة هادئة ليلة الخميس كما كانت أيّام زمان، بلا زمامير وزحمة سير ونوبات صراخ هستيري. الرواد كانوا أمام الشاشة الصغيرة. والحلول التي تبلورت في استوديو الهواء الطلق، حاولت التوفيق بين مصالح الجميع، مستثمرين وسكاناً وروّاداً. لكن هل هناك مفرّ من الإصلاحات الجذريّة؟ أي تخفيف عدد أماكن السهر، فرض أنواع أخرى من السهر الهادئ الذي يتناسب مع حي سكني، دفع «السهيرة» إلى الإحساس بالمسؤوليّة وإلى اكتشاف متعة المشي في هذا الحي الجميل بعيداً من سياراتهم الفارهة... أليست «الجميزة» صورة مصغّرة عن لبنان: من جهة فساد ورشوة وعشوائيّة وتقاعس الدولة وتواطئها على «الناس اللي تحت» وغياب التخطيط والرؤية المستقبليّة وسياسة احتقار الطبقة الفقيرة والتفريط بالذاكرة والاستثمارات المتوحّشة وفكر اقتصادي قائم على فلسفة «الكاباريه»، ومن جهة أنانيّة المواطن وتعلّقه بالمظاهر وانعدام حسّه المدني (رواد الحي) أو عجزه عن التحرّك للدفاع عن حقوقه (السكان)؟ إذا نجح الوزير عبّود في إصلاح الجمّيزة، فسنستنتج أن إصلاح لبنان... ما زال ممكناً!


في البرازيل
بعد الحلقَتين اللتين قدّمهما من أستراليا مع الجالية اللبنانية هناك، يسافر الإعلامي اللبناني مارسيل غانم (الصورة) في 21 نيسان (أبريل) الحالي، إلى البرازيل، ليجري مقابلات مع الجالية اللبنانية هناك. كما يقابل غانم الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، إلى جانب عرض مجموعة من التقرير المصوّرة التي تتناول أوضاع اللبنانيين المغتربين وإسهاماتهم في الشأن العام البرازيلي ومدى ارتباطهم بأرضهم الأم. ويذكر أن البرازيل تضمّ العدد الأكبر من اللبنانيين الذين هاجروا إليها منذ أوائل القرن الماضي. واللافت أن مارسيل غانم يركّز منذ فترة على المواضيع الإجتماعية بعيداً عن الملفات السياسية المباشرة.