بيروت تحتفي بالمايسترو وتشعل «الفانوس السحري»
غسان عبد الله
فيدريكو فيلليني (1920 ـــــ 1993). من بيته الأول سينما «فولغور» في مدينة ريميني، على البحر الأدرياتيكي، إلى بيته الحقيقي «استديوهات شينشيتا» في روما، رحلة دامت 73 عاماً قضى نصف قرن منها في هذه الاستديوهات، منذ دخلها صحافياً حتّى موته الذي جاء بعد عام على بيع هذه الاستديوهات في المزاد العلني. وشاء القدر أنّ يتّفق موته مع الذكرى الخمسين لزواجه من جولييتا ماسينا الممثلة الشهيرة التي أدّت أدواراً عدة في أعماله. وكان أهم هذه الأدوار، في رأيها، دورها في الحياة زوجة فيلليني.
طيف المايسترو يخيّم هذه الأيّام على بيروت، حيث تقدّم «متروبوليس أمبير صوفيل»، في نسخ ذات نوعيّة ممتازة (٣٥ مليمتراً)، أبرز أفلامه التي غيّرت مجرى الفنّ السابع. «الفانوس السحري» هو عنوان التظاهرة النادرة التي تقام لمناسبة 50 عاماً على فيلمه La Dolce Vita («السعفة الذهبية» في «مهرجان كان» ـــــ 1960)، بمبادرة من المركز الثقافي الإيطالي في بيروت. البرنامج الذي انطلق أمس مع «لاسترادا» (الطريق ـــــ 1954)، ويتضمّن 17 شريطاً من أفلامه، يختتم يوم 18 الحالي بـ«وداعاً فيدريكو» لجيديون باشمان.
روبيرتو روسيليني كان البداية التي غيّرت حياة فلليني من رسّام في ورشة متواضعة إلى مدرسة فنّية استثنائيّة طبعت القرن العشرين. عمل فيدريكو الشاب كاتباً ومساعداً لروسيليني في الشريط الشهير «روما، مدينة مفتوحة» (1945). وكان عليه أن ينتظر سبع سنوات ليحقق فيلمه الأوّل «الشيخ الأبيض» (1952) بعدما آمن به المنتج لويجي روفيري الذي سيموّل العديد من أفلامه اللاحقة. أثّرت حكايات أمه عن أيامها الأولى في روما في كتابته لحكاية هذا الفيلم. وقد أدّت زوجته في الشريط دوراً ثانوياً استوحى منه لاحقاً «ليالي كابيريا» (1957 ـــــ 7 /4). اندرجت أعماله الأولى في خانة الواقعية الجديدة، لكونها اقتربت من الوثائقية وغلبت عليها الميلودراما، بسبب وطأة مآسي الحرب واستخدام أشخاص عاديين في التمثيل أحياناً، إضافة إلى التقشف في الإمكانيات التقنية آنذاك. لكنّه سرعان ما سيمضي إلى سينما أخرى، غرائبيّة، ليس لها مثيل في تاريخ الفنّ السابع. سينما «فيللينيّة» كما بتنا نقول اليوم. قامت تلك السينما على إعادة صياغة الواقع في إطار من الخيال الجامح، و«الكذب» الجمالي الذي بات أسلوباً قائماً بذاته، والمبالغة التي تعكس نظرته إلى العالم والوجود، وتقول رؤيته الغامضة والمقلقة للحياة.
قد يعتقد بعضهم أنّ أفلام فيلليني اتّسمت بالسيرة الذاتية. لكنّ الحقيقة أنّها جاءت مزيجاً مما عاشه من تجارب، وما تخيّله وشاهده وحلم به. وهذا لا يمنع أنّ معايشات طفولته حاضرة في معظم أفلامه. ها هو مثلاً يستحضر والده الغائب باستمرار في «لا دولتشي فيتا» (1960 ـــــ 8 /4) و«ثمانية ونصف» (1963 ــــ 9 /4). وهناك الكثير من الحوادث الغريبة التي رآها في حياته، فجسّدها في أعماله. مشهد الطفل الذي يبوّل في المسرح في شريطه «روما» (1972 ـــــ 11 /4) هو نقل حرفي لحادثة حصلت في الواقع.
مثّلت الأحلام والرؤى مصدراً غرف منه فيلليني مواضيع أفلامه، فيما تعكس معظم أعماله نظرته النقديّة والساخرة إلى التربية الدينيّة والأخلاقيّة الصارمة التي تلقّاها، وكذلك إلى المؤسسة الكنسيّة والحياة السياسية التي عاصرها، مروراً بالتجربة الفاشية والقمعيّة.

ساحر السينما بامتياز كان مولعاً بعالم السيرك، كمجاز عن العالم

في L'intervista (المقابلة/ ١٩٨٧ ـــــ ١٧/ ٤)، حاول التصالح مع ماضيه. أما ذكرياته عن سينما فولغور في ريميني، فجسّدها في «أماركورد» (1973 ـــــ 12 /4). بينما ساعده تأثّره بالدمى منذ الطفولة وحبّه للسيرك في صناعة «كازانوفا» (1976 ـــــ 13 /4). كان فيلليني مولعاً بعالم السيرك، كمجاز عن العالم. وكان يتمتع بالقدرة على التواصل مع عالم الخيال والرمزيّة، ما جعل منه ساحر السينما بامتياز. كل أفلامه مصوّرة في ديكور اصطناعي، والشريط الصوتي كان يعيد تركيبه في الاستوديو، وكل كادر في أي من أفلامه لوحة فنيّة قائمة بذاتها. تأثّر بقراءات فرويد ويونغ عن التحليل النفسي والوعي الباطني، وانعكس ذلك في أعماله مشاهد هاذية وتهويميّة ولاواقعيّة بلا حدود. تميّزت طريقة إخراجه بقدرته على العيش في عالم الخيال. وقد ساعده ذلك في تحويل الأفكار والحوادث التي شاهدها إلى مشاهد وقصص، لكن مختلفة عن الواقع الموضوعي، لأنه أضاف إليها تطريزاته وزخارفه. هو الذي قال: «خيال الإنسان أقدس من واقعه. والدليل إن ضحكت على واقع أحدهم، سامحك. لكن إن ضحكت على ما يتخيّله، فلن يسامحك أبداً».

حتى 18 نيسان (أبريل) ـــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـــــ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/204080


روما عشقه الأكبر

إضافة إلى مسرح الدمى وسينما الطفولة ريميني، كانت جامعته الوحيدة مجلة «مارك أوريليو» التي بدأ العمل فيها عام 1939، فنمّت مفاهيمه الأساسية وموهبته ورؤيته الإخراجية. ولا شك في أن علاقته بالرسم والكاريكاتور وتصميم الدمى أسهمت في تنمية خياله. وأعانته موهبته في الرسم على التمتّع بدقة الملاحظة، ورسم شخصيات أفلامه على الورق. وبعدها، تصبح المهمة أسهل من خلال إيجاد الممثلين الذين يهبون الحياة لهذه الرسوم، علماً بأن مارتشيلو ماستروياني كان صنو السينمائي الكبير في أشهر أفلامه.
لكنّ روما باتت عشقه الأول والأخير، وخصّها بفيلم نادر («روما» فيلليني/ ١٩٧٤ ـــــ ١١/ ٤). منذ اللحظات الأولى لوصوله إليها لدراسة الحقوق التي لم يكملها، صارت المدينة جزءاً من خياله وسعادته، خليلة تطرد عنه شبح الوحدة. عاش فيها وعاشت معه ولم يستطع الابتعاد عنها حتّى النهاية.