المفكّر المعروف بمشاغله النقديّة والتنويريّة، يرصد في كتابه الجديد مختلف نماذج «النسويّة الإسلاميّة»، تأويليّة كانت أو رافضة، مع تسليمة نسرين، وإرشاد منجي، وأيان حرسي علي، ونجلاء كيليك، وأمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن
ريتا فرج
حين تساءلت سيمون دو بوفوار صاحبة «الجنس الثاني»: «ما السبب الذي جعل هذا العالم على الدوام ملكاً للرجال، ولماذا راحت الأمور تتغير الآن؟ وهل سيؤدي هذا التغير الى تقاسم العالم تقاسماً متساوياً بين الرجال والنساء؟»... بدأت النسوية الغربية رحلة الخروج من القمقم البطريركي إلى ضفاف عالم أرحب. عالم أتاح لها مجابهة منظومات مجتمعيّة تقليديّة تعود إلى القرون الوسطى، ولا ترى في المرأة إلّا عابرة سرير، أو جسداً وظيفته الإنجاب فقط. وفيما حققت المرأة الغربية انتصاراتها عبر الإقرار بحقوقها، بدءاً من القرن الثامن عشر، برزت حركات التحرر النسائية في الشرق، بعدما وضع قاسم أمين كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» عشية الاستعمار الأوروبي لديار الإسلام.
في كتابه الجديد «خارج السرب ـــــ بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية» (الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، يقدم المفكّر فهمي جدعان، مادةً أدبيةً علمية بشأن ما سمّاه «النسوية الإسلامية الرافضة». هذه التجربة تمثّلت في أربع نساء: البنغلادشية تسليمة نسرين، والأوغندية إرشاد منجي، والصومالية أيان حرسي علي، والتركية نجلاء كيليك. مقابل هذه الحركة، هناك النسوية الإسلامية التأويلية التي حملت شعارها ثلاث نساء: أمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن اللواتي عملن على قراءة النص القرآني بمنهجيّة اجتهادية تُسقط عنه الصيغة الذكورية. هذه الصيغة التي عزتها ليلى أحمد في «المرأة والجندر في الإسلام» إلى التفسيرات الأبوية للنص المقدس، لا إلى الإسلام نفسه.
فهمي جدعان (1940 ـــ مواليد قرية عين غزال قرب حيفا في فلسطين المحتلة) هو أحد المفكّرين العرب المعاصرين الذين يشتغلون بجديّة وثبات على إعادة قراءة تاريخ العالم العربي الإسلامي، وعينهم على الراهن، بهاجس خدمة مشروع التغيير والتنوير. قبل خوضه في المسكوت عنه في الأدب النسوي التأويلي والرافض، يستشهد جدعان ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مثل قوامة الرجل على المرأة، والحجاب، وولاية المرأة التي قيل إنّ الرسول قال فيها «لم يفلح قوم، ولّوا أمرهم امرأة». وهذا الحديث ما زال مداراً للنقاش بين أبرز رموز الإسلامويين، على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي الذي رجح الأخذ في أسباب ورود هذا الحديث وليس في حرفيّته، وهي النزعة القائمة عند الأصوليين، فأفتى بأن علماء الأمة اتفقوا على منع المرأة من الإمامة العظمى التي تشترط الذكورية.
تعود التجربة النسوية الإسلامية إلى مرحلة الإسلام المبكر، حين قادت أم سلمة والسيدة عائشة وسكينة بنت الحسين حركةً ثوريةً، يمكن القارئ العثور عليها في أدبيّات فاطمة المرنيسي (راجع الكادر). والثورة الوليدة لنساء الظل، تابعت مسيرتها من دون الوصول إلى الغاية المنشودة، إلى أن مثّل الصِدام مع الغرب أوّل انبعاثاتها على وقع المطالبة بالمساواة مع الرجل. غير أن النسوية الإسلامية بالمعنى الذي أشار إليه الكاتب، لم تصل إلى ذروتها إلا مع بروز أصوات نسائيّة تطالب بتأنيث تفسير النصوص التأسيسية. ولعل التجربة المشار إليها تمثّل الإشكالية الأساسيّة للأطروحة التي بين أيدينا.
«خارج السرب» يغوص في اللاوعي الجمعي العربي المثقل بالموروثات، بأفكار سائدة شديدة التأثر بالعصر الجاهلي وما تلاه من عصور حجّمت أدوار النساء. وإذا استقينا ما ورد من أمثال قبل ظهور الإسلام، لوجدنا كمّاً هائلاً من العنف المادي والرمزي تجاه الأنثى. قيل مثلاً «نِعم الختان القبر». وعليه نجد أنفسنا نتساءل: هل وأد البنات في الجاهلية انتقل مع ظهور الدعوة المحمدية من المدلول المباشر إلى المدلول اللفظي؟ بمعنى هل الذهنية القبلية الصحراوية السائدة قبل الإسلام وبعده هي التي بلورت القلق النسوي الراهن؟
إعادة قراءة القرآن قراءةً نسوية مثّلت المهماز الأهم لإشكاليات الكتاب. ها هي أمينة ودود أستاذة الإسلاميات في «جامعة فيرجينيا»، تخلص إلى أن القراءة الذكورية للقرآن هي التي تضطهد النساء، لا العكس. هكذا، طبّقت نظريتها حين أمّت صلاةً مختلطةً في نيويورك عام 2005، خارقةً بذلك التقاليد السائدة، وخصوصاًَ أن النص المقدّس لا يشير إلى عدم أحقيّة المرأة في أن تؤمّ الصلاة. الوجه النسوي التأويلي الثاني، هو الباكستانية أسماء برلاس، التي دافعت في كتابها «المؤمنات في الإسلام» عن المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وعن طبيعة التعاليم الإسلامية المضادة للبطريركية. وتساءلت: هل القرآن نصّ أبوي استبدادي بطريركي؟ وأجابت «ليس لأحد أن يحتكر معنى ما يقوله الله». وتوافقها في هذه المقاربة، نظيرتها رفعت حسن التي تصرّ على أن الذهنية البطريركيّة هي التي أحدثت التمييز الأنطولوجي بين الرجل والمرأة، وليس الإسلام.
على الجبهة الأخرى من النسوية الإسلامية التأويلية، تخرج ثلاث نساء هاربات إلى الغرب من سطوة المجتمع الذكوري. هذا التيار تمثّله كل من تسليمة نسرين، وأيان حرسي علي، وإرشاد منجي. وبكثير من الإسهاب، يسرد الكاتب حياة أولئك المناضلات الرافضات، التي تختصر برأيه بؤس نساء العالم. أدركت البنغالية تسليمة نسرين حجم شقاء المرأة، فآثرت اللجوء إلى أوروبا، معلنةً رفضها للاستبداد الذي يمارسه المجتمع البنغالي على الأنثى. وبأسلوبها المتمرد، انتقدت الحجاب، ودعمت سلمان رشدي محتجّة على الفتوى التي أصدرها الخميني بحقّه، موجزة أفكارها بالثورة على

نساء «خارج السرب» قرأن النصّ بمنهج اجتهادي يُسقط عنه الصيغة الذكورية
الدين. الصومالية أيان حرسي علي التي مرت بتجربة الختان، هربت أيضاً إلى هولندا، «بعيداً عن ثقافة الإسلام القمعية» كما تقول ثم أعلنت أنها «هجرت الله ملتحقةً بنادي المفكرين الأحرار».
أما الأوغندية إرشاد منجي، المهاجرة إلى كندا، والحاملة شعار محاربة الإسلام الأصولي، فلم تكن نسويّتها أقلّ رفضاً. انتمت إلى دائرة الإصلاح الإسلامي الليبرالي، وحاولت التوفيق بين المثليّة والإسلام على قاعدة أن القرآن يُقرّ بالتنوّع. هي التي صرّحت مراراً بأنها سحاقيّة. ويرى الكاتب أن أفكارها تتجه نحو التفسير الحر للقرآن، بغية تقويض الإسلام القبلي، أو إسلام الصحراء كما يصنّفه جابر عصفور.
تقوم أبحاث فهمي جدعان وأطروحاته على نزعة نقديّة تتعدّى الكشف المعرفي إلى محاولة فهم الراهن بمطبّاته وتعقيداته. وهو يضع في تصرّف القارئ أدوات معرفيّة ونقديّة في متناول مختلف الشرائح. و«خارج السرب» يندرج في هذا السياق بامتياز. أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي الذي عمل في أكاديميّات عدّة، آخرها الـ«كوليج دو فرانس» (باريس)، يقدّم في كتابه مادة علمية جديدة. ولعله الأول من نوعه في المكتبات العربية، لجهة مزجه بين نمطين من المدافعات عن حقوق المرأة في الحاضرة الإسلامية. خطاب القرآن موجه إلى الرجل والمرأة على حدّ سواء، يذكّرنا جدعان. وهذا هو الحجر الأساس لكل محاولة نسويّة لمواجهة المجتمع البطريركي العربي، من داخل النصّ الديني الذي حرّفت روحيّته ومقاصده.


الحريم السياسي

في كتابها الأشهر «الحريم السياسي» (1987)، تحكي الباحثة المغربيّة فاطمة المرنيسي (الصورة) عن العلاقة القوية التي جمعت النبي محمد بزوجتيه عائشة وأمّ سلمة، إذ كان يستمع إليهما في قضايا عدة مهمّة. وتشير صاحبة «شهرزاد ليست مغربية» إلى أنّ سكينة بنت الحسين مثّلت أحد النماذج الأولى التي تعاطت مع الإسلام في روحيّته، لا في حرفيّته، وخصوصاً في مسألة ارتداء النقاب.