strong>الكاتبة المنتحرة تطلق استغاثتها الأخيرةتلك الشابة الناقمة التي جعلت من القسوة والبذاءة وسيلة احتجاج، وصدمت معاصريها خلال حياتها القصيرة. كانت أخيراً البطلة الفعليّة لـ Psychosis 4,48. عملها ـــ الوصيّة قدّمه المخرج البولوني غريغورز جارزينا، في لندن، على مسرح «باربيكان» العريق

لندن ــــ محمد العطّار
صاحبة الطيف الهزيل والرؤى الكابوسيّة والعنيفة، عادت أخيراً إلى الخشبة في العاصمة البريطانيّة، بعد أكثر من أحد عشر عاماً على خروجها المدوّي من دائرة الضوء. إنّها سارا كاين (1971 ـــــ 1999)، الابنة الرهيبة للمسرح البريطاني، التي انتحرت ولمّا تبلغ الثلاثين، مخلّفة خمسة نصوص مسرحيّة فقط، هزّت العالم وصعقت معاصريها. آخر تلك النصوص Psychosis 4,48 الذي كان يهجس بالانتحار ـــــ وترجمته العربيّة «ذعر الرابعة و٤٨ دقيقة» (أو بتعبير أدقّ «ذهان 4.48») ـــــ أعادت تقديمه في لندن فرقة «تي. آر. وارسو» البولونيّة. المخرج الأربعيني غريغورز جارزينا ترجم تصوّراً خاصاً لنص كاين الذي ختمت به حياتها القصيرة والمضطربة. ويعدّ Psychosis 4,48 الأكثر تطوراً وتعقيداً على مستوى شكل الكتابة، لدى المبدعة الإنكليزية المثيرة للجدل، منذ أواسط التسعينيّات، تاريخ تقديم باكورتها Blasted (إبادة)، على خشبة «رويال كورت» اللندنيّة.
مونولوغ داخلي لعقل مشوَّش في عزلته وانسحابه إلى الداخل
في هذا العمل، لا تكتفي كاين بتغييب الإرشادات الإخراجية، أو أيّ إشارات إلى الزمان أو المكان، بل تُغيِّب حتى أصوات الشخصيات. هكذا، يأتي النص على شكل مونولوغات وحوارات متقطّعة، يبدو بعضها متبادلاً بين الصوت الرئيسي في النص (صوت الكاتبة نفسها التي عاشت اضطراباً نفسياً متزايداً في الأيّام الأخيرة قبل إقدامها على الانتحار)، وصوت الطبيب النفسي. وتبدو بقية الحوارات أشبه بالصوت الداخلي لعقل مشوّش ومضطرب، بفعل عزلة عنيفة وانسحاب مطّرد نحو الداخل. الرقم 4.48 يشير إلى الوقت، الرابعة و٤٨ دقيقة فجراً، ساعة الأرق التي تبلغ فيها رغبة الانتحار ذروتها، حسب إحصاءات ودراسات علميّة. كاين أيضاً كانت تصحو كلّ فجر، تعتريها موجة عنيفة من الإحباط، وهي تكتب هذا النص الذي عُدّ كاعترافات ما قبل الانتحار.
لكن بقدر ما يبدو هذا النص معقّداً وعصياً على القراءة للوهلة الأولى، بقدر ما يبدو مفتوحاً للتصوّرات الإخراجية. لقد أعاد جارزينا ترتيبه، وأعطى الجمل المتقطعة مجالها كي تعبّر عن الأصوات التي تحدّد عوالم الشخصية الرئيسة: كاين نفسها التي جسّدتها بتألق النجمة البولونيّة ماجدلينا سيليكا. هناك الطبيب المعالج، وهناك الطبيب الذي يقرر ببرودة مقدار الجرعات اللازمة لتهدئة المريضة المزعجة، وهناك العشيقة (يختار جارزينا أن تكون عشيقة لا عشيقاً في إشارة إلى مثليّة الكاتبة)، وهناك الصديق، وهناك الحضور الخاطف لطفلة صغيرة (حين كانت الضحكات البريئة متاحة). الأمر نفسه يتكرر قرب نهاية العرض مع حضور سريع لامرأة عجوز شاحبة، تدور بخطوات متثاقلة حول الخشبة، بجسد عارٍ وناحل، يحاكي ضمور جسد ماجدلينا وهي تجلس عارية منطوية على نفسها، مقتربةً أكثر من أي وقت مضى من وضع نهاية لألمها الهائل. يبدو حضور الشخصيات هنا، متأرجحاً بين الوهم والحقيقة، بين حضور مادي ملموس لكائنات عاجزة عن التواصل، وحضور ذهني طاغٍ تسترجع من خلاله ماجدلينا بواعث قلقها وألمها وخذلانها. تبقى تلك الممثلة المذهلة وحيدةً على الخشبة، لتذكّرنا ربما بعزلة كاين الهائلة في أيامها الأخيرة، قبل أن تنتحر في ربيعها الثامن والعشرين. كان ذلك في المستشفى ذاته الذي رقدت فيه بعد فشل محاولاتها السابقة. ينجح جارزينا ببراعة، في اكتشاف أبعاد أخرى للنص الذي حُكم عليه أن يُقرأ دوماً في ضوء النهاية المفجعة لصاحبته. تقودنا تلك المستويات الجديدة إلى البحث عن أجوبة للرحيل المؤلم والمبكر، ومحاولة ـــــ متأخرة ـــــ لسماع استغاثة كاين التي كانت وهي تكتب عملها ـــــ الوصيّة، قد عقدت العزم على الانسحابعلى الخشبة طاولة وكرسيّان وبضع أدوات أخرى، كأننا في غرفة مصحٍّ نفسي. ضحك الجمهور في مسرح «باربيكان» اللندني، ربما من فرط المرارة، حين قالت ماجدلينا «إنّها انتظرت أكثر من نصف ساعة لترى الطبيب الذي قال لها إنّ أمامها ثماني دقائق فقط لتعيش». كما ضحك حين قالت «بسبب إحباطي من فكرة الخلود، قررت الانتحار». لكنّ صمت المسرح العملاق كان مُطبقاً طوال العرض، فكانت أنفاس ماجدلينا المرهقة توازي في صداها صرخاتها المدوية وهي تبحث عن الحب والخلاص. حضور مؤثر لممثلة مدهشة بثّت الحياة في كلمات كاين التي تخترقنا بسهولة، لكن بكثير من الألم، ونحن نعيد تصوّر لحظاتها الأخيرة وتقاطعها مع أزماتنا النفسية الكثيرة في عالم يمضي بخطى واثقة نحو مزيد من القسوة والفردانية القسرية.
ينتهي العرض، مع كلمات ماجدلينا: «إنها نفسي التي لم أقابل قطّ... أرجوكم افتحوا الستائر»... قبل أن يبتلعها ظلام الخشبة الرهيب، ونلتقط أنفاسنا بصعوبة متسائلين: هل كانت هذه كلمات كاين الأخيرة قبل أن تختار هي الاختفاء طوعاً عن عالمنا هذا؟ صمتٌ ثقيل يخيّم على المسرح، دقائق قليلة تمضي ببطء رهيب، فيما نستعيد شريط العرض، والصور المؤثرة لشابة تختزل معاناة الإنسان المعاصر وعزلته الخانقة، وتمتلك شجاعة مرعبة كي تضع حداً لتلك المعاناة. لقد كان حضور سارا كين هو الأقوى في المسرح تلك الليلة، حضور الألم والوحدة في تجلياتهما الأكثر صدقاً وإلهاماً.