Strong>الكاتب الإيرلندي يعود إلى السينما من خلال بطله الأشهر «دوريان غراي». لكن المخرج الأميركي قدّم شباك التذاكر على روح الروايةيعود دوريان غراي، بطل أوسكار وايلد الشهير إلى الشاشة الكبيرة، في شريط جديد يحمل توقيع البريطاني أوليفر باركر. ولأنّ رواية «صورة دوريان غراي» ليست أسهل أعمال الكاتب الإيرلندي البارز، فقد اعتمد المخرج على سيناريو معدّل حمل توقيع توبي فينلي. وقد ركّز هذا الأخير على الأحداث السطحية للرواية، على حساب أفكارها الأخرى التي ترتبط بصورة العصر الفيكتوري في بريطانيا وقضاياه. هدفَ أوليفر باركر من تلك المقاربة إلى استقطاب جمهور الشباب. وللسبب نفسه، أسند دور دوريان غراي إلى الممثل الشاب والوسيم بن بارنز بطل سلسلة أفلام The Chronicles of Narnia.
بالطبع، ليس العصر الفيكتوري سهلاً على المقاربة السينمائية، وإن كانت حاضرة بكثافة في السينما المستوحاة من أعمال أدبية. هذا العصر الذي مهّدت أفكاره وطريقة حياته لحداثة القرن العشرين، لعل سمته الأبرز هي الازدواجية القائمة حكماً على النفاق الأخلاقي والاجتماعي. وبما أنّها أيضاً الفترة الذهبية للروايات القوطية أو روايات الرعب، فإن «صورة دوريان غراي» ما هي إلا نتاج ذلك العصر قصةً ومضموناً. وهي لا تختلف كثيراً عن رواية روبرت لويس ستيفينسون «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد» (١٨٨٦) التي صدرت قبل أربعة أعوام من «صورة دوريان غراي». ولا يُخفي أوسكار وايلد تأثره برواية ستيفنسون تلك.
الروايتان تعالجان مسألة الفصام في المجتمع الفيكتوري الذي كان يفرض سلوكاً قويماً وصارماً على أبنائه. لذا، كان لا بد من اللجوء إلى أسلوب الحياة المزدوجة، كي يتمكن المرء من تلبية كل رغباته، والحفاظ على صورته البراقة في المجتمع معاً (هذا السلوك له صداه طبعاً في راهننا العربي على نحو ملحوظ!). هكذا يكون الدكتور جيكل الطبيب المداوي نهاراً، وفي الليل يطلق العنان لنزواته الإجرامية ويصبح السيد هايد القاتل المتوحش. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دوريان الذي يعيش ذلك الفصام، بعد أن يبيع روحه مقابل الحفاظ على شبابه.
لم يكن المخرج أوليفر باركر جريئاً في تصوير حياة دوريان المتهتكة والخليعة
رواية وايلد الشهيرة الي اقتبست عشر مرّات حتّى الآن على الشاشتين الكبيرة والصغيرة (من فيليبس سمالي/ ١٩١٣ إلى دايفيد روزانبوم/ ٢٠٠٢... ومن ألبرت ليوين/ ١٩٤٥ إلى داكان روي/ ٢٠٠٦)، فضلاً عن أعماله الأخرى وبقصّة حياة وايلد نفسها، يعود إليها باركر إذاً مرتمياً بين ذراعي كاتبه المفضّل على الشاشة (راجع البرواز). إنّها قصّة ذلك الشاب الوسيم الذي يرسو في بريطانيا، فتتفتّح عيناه على الحياة وملذاتها بفضل اللورد هنري ووتون (كولين فيرث). هنا يتعرف دوريان غراي إلى اللورد هنري من خلال صديقه الرسام بازيل هوولوارد (بن تشابلين) الذي ينجز بورتريه دوريان لشدّة إعجابه بجماله. وبعد أن يستمع دوريان لنظريات اللورد ووتون بأنّ المتعة والشهوة والجمال هي كل ما يحتاج إليه الإنسان، يصرخ أمام اللوحة التي تجسّده، متمنياً أن يحافظ على شبابه وجماله بأي ثمن، حتى لو باع روحه للشيطان. وهو في ذلك يقدم مقاربة جديدة لأسطورة فاوست الذي باع روحه للشيطان مقابل المعرفة ومتع الحياة الدنيا.
ينطلق دوريان غراي مع صديقه اللورد ووتون في البحث عن المتعة، ويتعرف إلى ممثلة شكسبيرية جميلة اسمها سيبيل فين (راتشيل هيرد ــــ وود)، ويقع في هواها ويعدها بالزواج. تعجب به سيبيل وتسمّيه «الأمير الساحر» وتبلّغ أمها وأخاها جيمس بنياته. إلا أنّ الأم والاخ يشككان في نيات دوريان، وخصوصاً بسبب الفروق الطبقية والاجتماعية بين الطرفين. ومع أنّ سيبيل فين ممثلة موهوبة في أداء دور الحبيبة كما في مسرحية «روميو وجولييت»، إلا أنّها لم تخبر الحب في حياتها الشخصية. هكذا حين تقع في حب دوريان غراي، تفقد قدرتها على التمثيل. وحين تفشل كممثلة، يفقد دوريان رغبته بها معلناً أنّه كان منجذباً إليها بسبب جمال فنها ليس إلا. إشارة واضحة إلى منحى تقديس الجمال الذي انتشر، إلى جانب مذهب المتعة، في العصر الفيكتوري.
يعود دوريان إلى بيته، ويتفقّد لوحته فيجدها تغيرت قليلاً وظهرت تجاعيد عليها، فيدرك أنّ أمنيته قد تحققت، وأنّ اللوحة ستكبر في السنّ حاملةً كل آثار خطاياه وجرائمه، بينما سيظل هو شاباً. وحين يقرر أن يتصالح مع سيبيل، يكتشف أنّها انتحرت. لكن بتشجيع من اللورد ووتون، يحيا دوريان غراي ثمانية عشر عاماً من المتعة والتهتك من دون أن يترك «خطيئة» في منظار ذلك العصر، إلا يقترفها. وفي تلك الأثناء تصبح صورته في اللوحة في منتهى البشاعة بما تحمله من آثام.
يحاول دوريان، من دون جدوى، أن يغيّر من أسلوب حياته، علّ صنوه في اللوحة يتوقف عن التحوّل، إلا أنّها تزداد قبحاً. وفي الفيلم، تظهر الصورة على شكل جثة متحلِّلة تخرج منها الديدان. وفي ختام الرواية، يطعن دوريان اللوحة، لكنّه يموت هو بعد أن يستعيد الملامح التي تناسب عمره، فيما تستعيد الصورة في اللوحة شبابها الأوّل.
ويبتكر كاتب السيناريو، من خارج الرواية، ابنة للورد ووتون، اسمها إيميلي (ريبيكا هول)، لتكون بمثابة عقاب لوالدها المتهتك ولدوريان الضال. وكان الأجدى بالمخرج أن يجد مَن ينقذ فيلمه من الأداء السيئ لبن بارنز، إذ إنّ ضيق الأفق الدرامي دفع هذا الأخير إلى أداء بارد لدور يتطلب بعداً آخر تماماً، بعد أن يتسع للحياة العدمية التي يعيشها دوريان، ويسلّط الضوء على الغرور والنرجسية اللذين يؤديان إلى هلاكه جسداً وروحاً. ولم يكن جمال الممثّل كافياً للتعويض عن الأداء الحيوي الذي لا يقوم من دون صدق ومقدرة على الإقناع. والملاحظة نفسها تنطبق على أداء راتشيل هيرد ـــــ وود في دور سيبيل. بمعنى آخر، يكاد المشاهد يبقى على نهمه، لجهة التمثيل في الفيلم، لولا حضور الممثل القدير كولن فيرث الذي جسّد شخصيّة لورد ووتون.
لكنّ علّة الفيلم الأساسيّة برأينا، أنّ المخرج لم يجرؤ بما فيه الكفاية على تصوير حياة دوريان المتهتكة والخليعة، ليوظّف تلك المناخات الانحطاطيّة في السياق الدرامي الذي يفضي إلى المصير المأسوي للشخصيّة. في هذا الفيلم، كما في أفلام كثيرة مشابهة، يعتمد المخرج على جمال الممثلين والممثلات بدلاً من اعتماده على أدائهم. وحتى لو كان الفيلم مقتبساً عن رواية كلاسيكية، فإنّ الخلفيّة الأدبيّة للشريط لا تكفي للتغطية على النواقص الأخرى. فكيف تقنع المشاهدين بالأحداث، فيما الممثلون يبدون غير مقتنعين بها كما يدل أداؤهم.
هكذا، لا يبقى لفيلم أوليفر باركر سوى العناصر البصريّة الأخرى، من ملابس وديكور ومؤثرات خاصة تبدو أحياناً أكثر إمتاعاً من القصة نفسها. فهل وقع السينمائي البريطاني في فخ فلسفة العصر الذي يتحدث عنه، من ناحية تقديم الجمال الخارجي على أي اعتبار آخر؟ يخرج المشاهد من العرض، وهو لا يحتفظ في الذاكرة إلا بتلك اللوحة المخيفة المتحلّلة... إنّها العنصر الأكثر تشويقاً في الفيلم كلّه.
عماد...

Dorian Gray: «سينما سيتي»


وايلد أيضاً وأيضاً