نوال العليهل كان هناك تيّار ماروني وآخر شيعي في الشعر اللبناني؟ اللبنانيون يفضّلون تسميات أخرى، كأن يقال شعراء الجنوب، أو الشعر البيروتي المختلف عن الشعر اللبناني. لكن لدى مراجعة الشعراء المعنيين، نلاحظ أنّ هذه النعوت ترتبط بالجغرافيا على نحو كبير.
منذ مطلع الستينيات، بدأ تيارا النثر والتفعيلة حربهما قبل الحرب الأهلية الفعلية. ظل شعر التفعيلة والغنائية لصيقاً بشعراء الجنوب، ومنهم آل عبد الله وشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين، أكثر مما التصق بأتباع المدرسة التي أسّسها أنسي الحاج، وتبعه فيها عبده وازن (نستثني عباس بيضون وبول شاوول ووديع سعادة الذين كانت لكل منهم حالته الخاصة). لكنّ الحرب الأهلية جاءت لتغيّر مفهوم التجييل الشعري في لبنان. بدءاً من الثمانينيات، اختلطت حياة الحرب ومفرداتها بالقصيدة اليومية والتعبيرات الشفهية وقصص ما بعد الحداثة وانتماءات الشعراء المختلفة. وتطرّفت لغة الشعراء في واقعيتها، كأن يقول صاحب «الزعران» يحيى جابر: «مرّ الرجل على الشاشة/ بلا عائلة./ أطفاله الأربعة/ ذابت أنفاسهم بين الأقمطة/ كألواح شوكولا/ صرخت زوجتي.../«يا يحيى، كم طفلاً سننجب ليبقى أحدهم»./ لحقتها إلى غرفة النوم../ وحضّنا زكريا في سريره/ وتجمّدنا في صورة تذكارية، أعتقد أن الحرب شخصية جداً».
ثم طلع علينا عباس بيضون بنقده للألم ليقول: «قتلوا أبناءهم بالغلظة ذاتها التي قاتلوا بها أعداءهم. مع ذلك، الأسرة بكاملها تتزين في الداخل». ورغم اختفاء تسميات مثل الشعراء الجدد أو شعراء الجنوب أو أتباع جدد لقصيدة الحاج، إلا أنه لا يمكن النظر إلى الشعر اللبناني خلال مرحلة الحرب كحلقة واحدة في عصر واحد، رغم انتقال القصيدة إلى بعد مختلف تظهر فيه الحرب مكوِّناً أساسياً في نسيج الشعر نفسه. مثلما حدث لقصيدة عباس بيضون التي اكتسبت بعداً ونقلة درامية مختلفة: «بعد أن كتبت «صور» عشية الحرب. بدا لي كأنّ هناك هوة لا بد من أن أستوعبها. لا أستطيع أن أواصل كما كتبت في «صور»، لأنها فجأة صارت في زمن آخر. (...) الحرب شكلت قطيعةً شعريةً بالنسبة إليّ، وأظنّها كذلك بالنسبة الى الآخرين. ومن هذا القطع، ولدت الرواية اللبنانية، والشعر الجديد».
هذه الموجة الشعرية الجديدة امتدت من شعراء بدأوا الكتابة منذ السبعينيات ثم انخرطوا في موجة القصيدة اليومية الثمانينية ليشكلوا مغامرة البدوي داخل عمران القصيدة الحديثة. ليسمح لنا الشاعر محمد مظلوم بالاستعانة بكلمات من كتابه «حطب إبراهيم». البدوي هنا بمعنى النموذج «غير المتشكل بعد، لكنه قائم على رفض ما هو قائم». وهذا ما حدث فعلاً في القصيدة اللبنانية في تلك الفترة. نلاحظ ذلك لدى كتّابها أمثال يوسف بزي، وفادي أبو خليل، وشارل شهوان، وحتى الجيل الأكبر سناً من بيضون وشاوول، وصولاً إلى الجيل الأصغر من ناظم السيد وغسان جواد وفادي طفيلي. كل هؤلاء مشوا في توثيق تجربتهم الشخصية وموقفهم من المكان والحرب. وكثيراً ما دارت تفاصيل الحب والجنس في أفق الحرب. ظهرت توليفة ذات خصوصية لبنانية فعلاً في تجاوز الحدود بين القص والشعر سعت إلى تحويل الحرب إلى شعر.
اللافت أن هذا ما حدث بالضبط للقصيدة الإسبانية بعد الحرب الأهلية (كتاب «تاريخ الشعر الإسباني خلال القرن العشرين» لأندرو ب. دبيكي). كأن حالة الحرب نفسها جسّرت الأزمة بين الواقع ولغة الفن التي لم تعد لغة الفن بقدر ما هي لغة الواقع في الفن الشعري نفسه.
المهم إذا عدنا إلى التجييل على أساس العقود، فإن جيل التسعينيات في لبنان ولد من دون أن يشعر به أحد. ولغاية الآن، لم يقدم هذا الجيل البدوي الرافض للموجود ما هو خارج سياقه، ليلفت النظر بوصفه تجربة خاصة في مسار الشعر اللبناني الحديث. وربما كانت الحرب سبباً أساسياً في السير باتجاه الرواية، وولادة شعراء جدد من دون ضجيج، كما حدث لشعراء السبعينيات والثمانينيات.