«القدس مدينة السلامين» بين الإيكزوتيك والفخّ السياسي

الموسيقي الإسباني المعروف، سفير «الأونيسكو» للسلام، جمع موسيقيين إسرائيليين وعرباً، أبرزهم عمر بشير، في القدس مهد الديانات التوحيدية الثلاث، ليقدّم احتفالية تدعو إلى «الصداقة»، وتستعيد تاريخ «زهرة المدائن» بشيء من الاختزاليّة والسذاجة

بروكسل ـــ وسيم إبراهيم
ربما كان السلام قد راود أحلام جوردي سافال (1941ــــ راجع البرواز) حتى اشتغل على مشروع «القدس مدينة السلامين» (السلام الدنيوي والسلام السماوي). لكن ما نعرفه أنّ مجمع Cité de la musique الباريسي طلب من المايسترو والموسيقي الإسباني المعروف تقديم مشروع موسيقي يجمع الديانات التوحيدية الثلاث: المسيحية، والإسلام واليهودية.

انطلق المشروع الذي أرادوه «احتفالية للصداقة والسلام» في حزيران (يونيو) عام 2007. ولمّا كان المجمع الفني يريد أن تكون «طلبيته» جاهزة في ربيع 2008 ليعرضها ضمن سلسلة حفلات ينظّمها، وجد سافال وزوجته السوبرانو مونسرات فيغيراس ــــ المختصّان في الموسيقى القديمة ــــ أنّ مدينة القدس تحلّ لهما قصة جمع الديانات الثلاث. من هنا، تبلور المشروع في رأس سافال، وصارت لديه خلطة الديانات الثلاثة، ولا بأس بإضافة بعض بهار السلام وشجونه. كان يمكن المشروع النهوض بطاقم موسيقيين آخرين، لكن سافال أراد تحقيق المعادلة الصعبة: جمع موسيقيين عرباً وإسرائيليين، إلى جانب زملائهم الأوروبيين. ونسبياً كان له ما أراد. هكذا، ظفر بعازف العود العراقي عمر منير بشير، بوصفه موسيقياً يحيط به بريق إعلامي خاص. وجاء قبول بشير بالمشاركة، بعدما عرض سافال «الدور» على موسيقي مصري ورفض (راجع الصفحة المقابلة). ثم أحضر مجموعة عازفين فلسطينيين، هم عازف الناي أسامة أبو علي، وعازف القانون وهاب بدارنة. وهناك أيضاً فرقة صوفية من الجليل تدعى «الدراويش» والمغنيان موفق شاهين خليل وخالد أبو علي. وسيحضر معهم أحياناً العازف المغربي إدريس الملومي.
هكذا جمع سافال في سلّته العراق وفلسطين والمغرب مع إسرائيل. لكنّ ذلك لم يكفِه. ها هو يسعى إلى «جرجرة» سوريا إلى مشروعه، فضم إليه العازف الإسباني السوري الأصل فهمي القي (تشيللو). لكنّ العازف، المختصّ أيضاً بالموسيقى القديمة، يعيش ويعمل في إسبانيا، ولا يعرف من سوريا سوى سنوات طفولته الأولى. ولا نعرف إن كان الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي يعنيه من قريب أو بعيد. إلا أنّ جوردي سافال قدَّمه فقط بصفته سورياً، وفاتته الإشارة، ولو على نحو عابر، إلى هويّته الإسبانيّة. هكذا تسلل سافال من الشبّاك ليضم سوريا وفلسطين.
قدم جوردي سافال مشروعه بعدما صارت لديه «كتيبة سلام» على رأسها عازفون إسرائيليون عدة، أبرزهم يائير دلال العراقي الأصل. بعد شهرين، أعلنته منظمة «الأونيسكو» وزوجته سفيرين للسلام (حزيران/ يونيو 2008). وكانت «الاحتفالية الموسيقية من أجل الصداقة والسلام»، كما يسمّي سفير السلام جوردي سافال «القدس مدينة السلامين».
المشروع عبارة عن أسطوانتين موسيقيّتين تتجاوز مدتهما ساعتين ونصف ساعة، يستعيد التقاليد الموسيقية التي تعود إلى عهود مختلفة من تاريخ القدس. هكذا، تبدأ باليهودية ثم المسيحية فالعربية فالعثمانية. وضمّت الأسطوانتان كتاباً مترجماً إلى ثماني لغات يحكي الخلفية الموسيقية التاريخية للمدينة. قدّمت هذه «الاحتفالية» أخيراً في العديد من المدن الأوروبية، من بينها بروكسل في شباط (فبراير) الماضي. وستكمل جولتها لاحقاً في مونتريال ونيويورك وكامبريدج وجنيف وغيرها...
لكن تلفيق المشاركة العربية ليس كل شيء. يبدأ تاريخ القدس في احتفالية سافال من الجزء اليهودي، مع أنّ سافال صرّح مراراً بأنّه يهمّه إظهار صورة توحّد تاريخ المدينة. ثم يكمل إلى الوجود المسيحي فيها، ثم العربي والعثماني (يفرد مكاناً للموسيقى التركية). ويقدم مزامير ومقطوعات حاخامية، وترانيم كنسية وبعض الأناشيد الإسلامية.

«احتفالية للسلام» في مدينة تشهد يومياً على دموية إسرائيل التي يسميها سافال عنفاً متبادلا
لكن قبل أن ينهي بترتيلة مشتركة يرى أنها «صلاة سلام للقدس»، يختم تاريخ المدينة المقدسة، بترنيمة «الله رحيم» التي صارت رمزاً لضحايا الهولوكوست. هذه الترنيمة صارت رمزاً لأنّ لها قصة مأسوية، لا تتوقف الصحافة الغربية عن التركيز عليها في مشروع سافال. كان اليهودي شلومو كاتز في طريقه إلى الإعدام في عام 1941 حين طلب إنشاد هذه الترنيمة في أمنية أخيرة. سمعه ضابط ألماني فتأثر وساعده على الفرار، قبل أن يعود كاتز إلى تسجيلها ترنيمةً خاصة لضحايا أوشفيتز في عام 1950. هكذا، ربط الموسيقي الإسباني بين الهولوكوست وتاريخ القدس، ماسحاً بلباقة جرائم إسرائيل منذ 1948، جاعلاً من اختراعه هذا «الثقل الدرامي لمشروعه الموسيقي. وطبعاً هنا يتوقّف التاريخ مع سافال. لا يكمل سافال. لا يهمّه ما تخوضه المدينة منذ النكبة، وصولاً إلى يومنا.
يريد فقط أن يقدّم أصوات «جميع» ثقافات المدينة المقدسة، أما حاضرها فليس شغله. ليست هناك ترنيمة خاصة بالضحايا الفلسطينيين. تاريخ القدس عند سافال يبدأ بيهوديتها، وينتهي بالمحرقة. هكذا تكتمل الدائرة. طبعاً لم يفته، مثلاً، نبش آلة «الشوفار» اليهودية القديمة (يُعتقد أنّها صنعت من قرنَي كبش إبراهيم) لتقديم المقطوعات الخاصة بالجزء اليهودي في الاحتفالية. إذاً، هناك ما يكفي من «الإيكزوتيك» للجمهور والإعلام. والنتيجة «احتفالية للسلام» في مدينة تشهد يومياً على دموية إسرائيل. لكنّ سافال يكتفي بالقول: «هناك عنف متبادل»... الله رحيم!


«كل صباحات العالم»: لن تضيء ليل فلسطين!



يتمتّع جوردي سافال بمكانة مرموقة في الأوساط الموسيقية الأوروبية. إذ إنّ المايسترو الإسباني عمل طويلاً منقِّباً في الموسيقى الأوروبية القديمة، وخصوصاً موسيقى القرون الوسطى والنهضة والباروك. هو في الأساس عازف كمان أوسط وقائد جوقة، ومؤلف موسيقي. لاحقاً، نال شهرة واسعة بفضل السينما. ومثلما جعل فيلم Le Fabuleux Destin d’Amélie Poulain نصف الأوروبيين يريدون تعلّم عزف الأكورديون، فإنّ النصف الآخر وقعَ في حب الـ«فيولا دا غامبا» (آلة لها سبعة أوتار وتُعَدّ الآلة الأم للتشيللو)، بعدما قدّم سافال موسيقاها لفيلم «كل صباحات العالم» (1991) لألان كورنو، ونال عنها جائزة «سيزار».
قد نعشق موسيقى سافال. لكن هذا لا يمنع من انتقاد الخلفيّة السياسية الخطيرة لمشروعه. ورد ذلك في أحاديث عدة أجرتها معه وسائل الإعلام البلجيكية بعد تقديم «القدس مدينة السلامين» في بروكسل. ومما قاله لمجلة قصر الفنون الجميلة «البوزار»، وجريدة «ستاندارد» البلجيكية، أنّه يدرك ضرورة «إسكات القنابل كي نستطيع سماع الموسيقى»، وتوقّف عند دور الموسيقى في التأسيس للسلام. ثم أعطى رأيه في الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي الذي ساوى فيه بين الجلاد والضحية: «للأسف، هناك عنف متبادل من كل الأطراف، والموسيقى باتت المكان الأخير الذي يتّسع للحوار».
يتحدث جوردي سافال عن ماضي بلده، وعن «الظلم» الذي لحق بأجداده اليهود والموريسكيّين (المسلمون الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية عقب سقوط الأندلس). يقول: «شعرتُ بأنّ لدي مسؤولية تجاه السلام». ويؤكد أنّ مشروعه «لديه طبعاً أهداف سياسية حتى لو لم يكن ذلك هدفنا الأول». لكن طريقة تفسيره

«لا بدّ من إسكات القنابل كي نستطيع سماع الموسيقى»

اختزاليّة وساذجة للأسف. فمجرّد جَمع كل هؤلاء الموسيقيين برأيه، «يعني أني كسبت هاتين الساعتين للسلام، ولو في فرقة موسيقية». ويعتقد الفنّان الإسباني أنّ أهم ما حقّقه هو جعل الموسيقيين الإسرائيليين والعرب المشاركين «يندمجون في احتفالية للصداقة والسلام. لذا حصلنا على انسجام رائع».
طمح مشروع «القدس مدينة السلامين» إلى تقديم تاريخ القدس الممتد على 5 آلاف سنة. ورغم أنّه عمل ضخم «يتجاوز النماذج العادية»، إلا أنّ سافال يعترف بأنّه «لا يفي المدينة حقها». إذ إنّ تقديم صورة تظهر «وحدة» تاريخ المدينة، كان أساس شغله، كما يقول: «فكرنا في أنّ طموحنا في تكريم المدينة يمكنه النجاح إذا قدمنا كل الشهادات، وأقصد هنا أصوات كل هذه الشعوب وثقافاتها وأديانها التي كوّنت هوية المدينة خلال ماض مضطرب بالأحداث». لكنّ ساعتي السلام على طريق سنيور جوردي، عبرتا على عجل، ويبقى أن نجد أسساً عادلة لسلام حقيقي ونهائي بعيداً عن الأضواء.