عمر الزعني...«ابن البلد» وضميرها



الفنّان البيروتي الفريد الذي تألّق في النصف الأوّل من القرن العشرين، وكان «صوت المهمّشين»، يعود اليوم بدعوة من «نادي لكل الناس» ليذكّرنا بأمور كدنا ننساها...

هالة نهرا
تسمياتٌ كثيرة ظلّلته. قيل إنّه ظاهرة فولكلورية مدينية. شُبّه بموليير من فرط سخريته، وقدرته على التعبير عن هموم الإنسان في إطار فنّي شعبي متفرّد. لُقّب بـ«فولتير العرب». كثيراً ما كان يتلاعب باللّغة المحكية وألفاظها. عُرف بعباراته المتفنّنة في إبراز معاناة الطبقة الكادحة على المستويين السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إنّه عمر الزعنّي (1895 ــــ 1961) «صوت المهمّشين» الذي وثّق أحداثاً وتحوّلات عبر أغانيه الممسرحة وقصائده وبرامجه الإذاعية. وُلد في بيروت التي وصفها بـ«زهرة في غير أوانها (...) تذبل على أمّها وتموت» وتماهى قلقه الفنّي مع قضايا الناس وتطلّعاتهم. ارتدى روح المدينة المتمزّقة. حكّاءٌ هو. تراجيكوميدي. يقولب الأغنية الشعبية والمونولوج ليلتحفا ببساطة المركّب لغويّاً وفنّياً، ويجنحا إلى لهجة استهزائية. تهكّمٌ ينبع من قتامة الواقع، ومن رغبة عارمة في العيش كيفما كانت ظروف الحياة.
بعد دخوله «الكلّية العثمانية»، التحق ابن محلّة زقاق البلاط بفرقة المدرسة الموسيقية، مواظباً على العمل فيها. ما يفسّر بُعد علاقته بالموسيقى وماهيّتها، وإن لم تكن تشي بخلفيّة احترافية فعليّة. إذ إنّ الموسيقى لديه جزءٌ من عناصر فنّية عدّة، تتضافر في عروضه لتؤلّف كلاًّ فنّياً مؤسلباً.
بُعَيد الحرب العالمية الأولى، سافر «ابن الشعب» إلى حمص، وانضمّ إلى المدرسة الحربية. وبسبب انخراطه في العمل النضالي ضدّ السيطرة العثمانية، أُبعد إلى فلسطين. ولم يعد إلى مدينته إلا في نهاية العهد العثماني (1918). ثم جاءت السيطرة الفرنسية والبريطانية لتقاسُم منطقتنا. في ذلك الوقت، بدأ الزعني يبحر إلى فضاء الشعر وعوالمه. تبدّى ذلك في أسطُره الشعرية الغنائية، وخصوصاً قصيدة «الحجاب» وما تلاها. وقد دعا «شاعر التحوّلات الحاضرة» إلى التمرّد على الواقع والطبقة السياسية الحاكمة. ما أدّى إلى اعتقاله مراراً في «سجن الرمل» (مبنى «جامعة بيروت العربية»).
لم يكتف بتبنّي حاجات الناس ومتطلّباتهم، كما في قصيدة «الشعب ما عاد يلقى دفشة»، بل عكسها في أعماله كأنّه مرآةٌ للفرد والجماعة في آن. الصورة في المرآة تعكس ازدواجيةً ما. ازدواجية الإنسان والوطن بتناقضاتهما وقدرتهما على التلوّن. الوطن الهشّ بتركيبته الطائفية التي انتقدها «ابن البلد» وقتذاك، ما زال يتخبّط في أوحال الطائفية وما زال أرضيّةً خصبة لانتهاكات كثيرة. لذلك، ما صاغه الزعنّي في القرن الماضي، ينطبق على زمننا الراهن. كأنّه ستارة تشفّ عن مآسينا التاريخية وأمراضنا المتأصّلة. أمّا قدرته على التقاط النبض الشعبي، فتأتي من موهبة استثنائية ومن التصاقه بعصب الشارع وإيقاعه.
ولعل الزعنّي كان الأوّل، والأبرز، لبنانيّاً، في تشريع الأغنية

كان الأول لبنانياً في تشريع الأغنية الملتزمة
الملتزمة. ومع أنّه لم يمِل إلى الطرب بمفهومه «الكلاسيكي» التقليدي، لكنّ جمهوراً واسعاً أحبّه، إذ وجد في أغانيه تجسيداً لآلامه وكبته وإخفاقاته وأحلامه. حفر صاحب قصيدة «كريزا» حالات، وانفعالات وشخصيّات سيكولوجية («الحشري» و«الطمّيع») في سجلّ الشعر العامّي والزجل، وفي ذاكرة الأغنية الشعبية اللّبنانية والعربية. لم ينسَ الكنّاسين والعتّالين وخصّ السائقين بقصيدة «الشوفير».
نقش بصمةً فنّية في تاريخ بيروت وتراثها الثقافي، كي لا تزول ملامحها مع هدم المعالم التراثية العمرانية لهذه المدينة. إضافةً إلى سرعة الخاطر ارتجالاً، اشتغل على صِيَغه المؤدّاة ورحل مخلّفاً صرخة رفضٍ مدوّية ضد واقع سياسي ومعيشي هزلي وهزيل. أغنياته تنطبق على الراهن انطباقاً مدهشاً!

* ضمن احتفالية «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»، يقدّم «نادي لكل الناس» تحية إلى عمر الزعني في الثامنة من مساء غد الأحد في «قصر الأونيسكو». يتضمّن الاحتفال إعادة نشر كتاب عن عمر الزعني يحوي قصائد مختارة، وبث شريط وثائقي عنه من إخراج رنا المعلم، وعرضاً مسرحياً لعايدة صبرا وأحمد قعبور... وحفلة غنائيّة يقدّمها أحمد قعبور وتانيا صالح ومنير الخولي و«مشروع ليلى» ــــ للاستعلام: 01/970253