خيميائي الأساطير والخراب أنزل عشتار إلى «العامرية»
خرج من رحم السبعينيات الشعريّة في العراق. حفر تجربته بصمت، متأثراً بسان جون بيرس وأدونيس ومحمد بنيس، ثم غائصاً في الأساطير والغنائيات السومريّة. أنتج نصاً مضاداً لقصيدة الحرب العراقيّة. مع صدور أعماله الكاملة، عودة إلى الشعر «مستودعاً لانشغالات الروح»

خليل صويلح
سطوة جيل الستينيات على المنابر، والحروب المتلاحقة في بلاد الرافدين، حاصرت تجارب جيل السبعينيات في العراق، أو معظمه، وخصوصاً في مجال الشعر. خزعل الماجدي (1951) واحد من هؤلاء الذين دفعوا ضريبة الحرب والحصار، فانطوت قصيدته في منطقة نائية، تحفر بصمت في مشغل شعري خاص، بعيداً عن هتاف «شعراء القادسية». نكتشف اليوم ثراء تجربة صاحب «يقظة دلمون» (1980) وتعدّد مرجعياتها، كأنّ هذا الشاعر حفيد شرعي للمدوّنات السومرية لجهة الغنائية والشجن والوحشة. صدور أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) مناسبة لتلمّس محطات أساسية في هذه التجربة.
يعترف خزعل الماجدي بأنّ هبوب قصيدة سان جون بيرس على المشغل الشعري العراقي في أوائل السبعينيات، إضافةً إلى كتابات أدونيس ومحمد بنيس تركت بصمتها الواضحة على تجارب جيله. لكنّه استيقظ لاحقاً على كنوز القصيدة الشرقية، والميثيولوجيا المحلية. راح يقلّب تربة القصيدة على مهل، ويشذِّب معجمه ليجد في الطلاسم والتعاويذ ومفردات السحر مفتاحاً لكتابة نصّ مغاير. «استهوتني كتب العرافين والسحر والرقى والأسطورة، فلجأت إلى التراث السحري بعد تحريره من أبعاده الغيبية، ما أسهم في تشكيل خصوصيتي الشعرية». ويلفت صاحب «اسمعي رمادي... اسمعي موسيقى الذهب» (1993) إلى إنّه لم يتعامل مع الأسطورة على طريقة السيّاب والشعراء التموزيين، بل بوصفها شحنة شعرية تتغلغل في متن النص.
قصائده الأخيرة تعتني بهشاشة الكائن البشري والزهد في الرغبات وكثافة الصورة
في التسعينيات، وجد شاعرنا نفسه في أتون حرب جديدة، فعمل على مادة الحرب من موقع آخر هو «النص المفتوح». توغل في سرد ملحمي ومعرفي وإيروتيكي، فكان نص «خزائيل» عام 1989 (يصدر قريباً في المجلد الرابع من الأعمال الشعرية). أثار هذا النص لغطاً كبيراً نظراً إلى النبرة العرفانية التي وسمت مناخاته. قصيدة الحرب العراقية كانت تعمل في مكان آخر، بانشغالها في تمجيد البطولات. لكنّ خزعل الماجدي الذي خبر الحرب عن كثب، أراد أن يستلهم خبرةً أخرى. هكذا، استنفر الموروث الشعبي عبر خلائط خفية من السحر والطلاسم، إضافةً إلى التخفف من الركائز البلاغية عبر الذهاب إلى قصيدة المعنى.
لعلّ البيان الذي أصدره في منتصف الثمانينيات بمشاركة كوكبة من الشعراء المارقين «خمسون بيضة فاسدة في سلّة الشعر السبعيني»، كان التعبير النظري الأمثل عن تلك الحقبة الجحيمية... كتابة الألم وتلوينات الحياة اليومية بأقصى حالات الهتاف والسخط والخيبة، والإسراف في كشف عورة السلطة الشمولية الدامية من خلال اللجوء إلى الغموض تارةً، واختبار شراسة اليومي طوراً. نظريات أوصلت إلى انقلابات جذرية في العمارة الشعرية؛ «استفاق النحاس ووجد نفسه بوماً». هذا الموروث الشعري كان محصلة لقلق شاعر عاش خراباً طويلاً. خرابٌ وضعه مرغماً في عزلة اضطرارية، أنتجت نصاً مضاداً بمتاهات سريّة صلدة تعمل من الداخل: «مائدتي ذَبُلت وثيابي فقدت أصباغها».
قصائده الأخيرة تعتني بهشاشة الكائن البشري والزهد في الرغبات، وكثافة الصورة، «فالشعر مستودع ضخم لانشغالات الروح»، يقول. سوف يلجأ في مطلع التسعينيات إلى الكتابة المسرحية كنوع من الخلاص في التعبير عن لحظة تراجيدية لا تستوعبها القصيدة المفردة. هكذا كتب «عزلة في الكريستال» (1990)، وهو نص طويل متفلِّت من المعايير، وذلك بمزج بلاغة الصورة بالأسطورة، وإذا بالمخرج العراقي صلاح القصب يتلقفه على الفور ليأخذ طريقه إلى الخشبة. ثم تتالت أعماله المسرحية المعروضة، لتصل إلى 12 عملاً، أبرزها: «هاملت بلا هاملت»، و«الغراب» (1992)، و«قيامة شهرزاد»، و«نزول عشتار إلى ملجأ العامرية» (1994). النص الأخير عُرض في الملجأ الذي شهد الكارثة بتوقيع المخرج جبار المشهداني، فكان بمثابة بروفة حيّة للحظة الموت الجماعي أو ما سميّ بـ«مسرح اللحظة الساخنة». هذه الأعمال ونصوص أخرى كُتبت بعد احتلال بغداد مثل «نهب الجنة»، و«حرائق نينوى»، و«موسيقى صفراء»، سيضمها مجلد واحد، يصدر قريباً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».
في لاهاي حيث يعيش منذ سنوات، متفرغاً للكتابة في حقل التأريخ والأسطورة والأديان، أصدر 22 كتاباً تعالج أساطير الشرق القديم. تفحص بعمق آليات العقل الشرقي في صوغ ميثولوجياه المحلية، مروراً بنشوء الأديان والمعتقدات. يقول صاحب «بخور الآلهة» (1998) موضحاً أسباب اهتماماته الجديدة: «لم أنظر إلى الأسطورة بمعزل عن اهتمامي بالشعر أو بالمسرح، بوصفهما فعلاً درامياً في المقام الأول». ثمّ يستدرك: «ربما كان تصدّع العالم بفعل الحروب والأيديولوجيات هو ما شدني إلى عبق أساطير الآلهة، لمواجهة عسف ما يحدث في ربع القرن الأخير، ومطلع الألفية الجديدة». التجوال في كتيه من «سفر سومر» إلى «إنجيل بابل»، و«تاريخ القدس القديم» و«الميثولوجيا المندائية»، قاده أخيراً إلى مشروع ضخم آخر هو «تاريخ الفن» الذي من المتوقع أن يصدر قريباً في عشرة مجلدات، وهو ـــــ كما يقول عنه ـــــ «بانوراما شاملة لتاريخ الفن منذ عصر الكهوف إلى اليوم».