حسين السكافبين ذاكرته العراقيّة العابقة بآمال ضائعة، وإسبانيا/ الأندلس، قسّم صلاح نيازي ديوانه الجديد «قمر بغداد». صدرت المجموعة الشعريّة عن دار alfalfa في إسبانيا، بالعربيّة والإسبانيّة، وقد خصّ الشاعر العراقي القسم الثاني منها بعنوان «واجهات إسبانية»، لكنّه يفتتحها بقصيدة «العودة من الحرب»، ليستحيل الديوان إلى لوحة عراقية عابقة برائحة الموت وغبار الخيبات.
تتجه دلالات القصيدة الافتتاحيّة نحو السماء، رغم انكسار إنسانية المشهد: «البنادق مرفوعة بالطول فوق الرؤوس/ كأنّ الجنودَ يعومون إلى الرقبةِ في طوفان». لم يعش نيازي حروب العراق، بسبب غربته الإنكليزية، لكننا نجده وقد ملأ ديوانه بالبنادق والدم وصور الشهداء... أجواء القصيدة تذكّر من عاش لحظات الانكسارات العسكرية بذلك الجزع الذي مسخ كلّ أثر إنساني داخل الروح العراقية. «العرباتُ العسكريةُ عائدةٌ ببقايا الأحياء/ أكتافُهم بلا رُتَبٍ، وقمصانُهم بلا أزرار/ أياديهم مجاذيفُ في نهرٍ جافٍّ / من موجةٍ يابسةٍ إلى أخرى / نوح، نوح، نوح / ... / في حومةٍ كهذه لا تهمّ الأطرافُ المفقودةُ / بقيةُ إنسان، أيّةُ بقيّةٍ تكفي...» مشاهد كارثية لا تزال راسخة في مخيلة أهل بلاد الرافدين بعد قافلة الحروب المتعاقبة. في «قمر بغداد» قصيدة الديوان الثالثة، يرسم الشاعر صورة للقمر في سماء العاصمة العراقيّة. رغم نشوته بدفء القمر البغدادي، يذهب نيازي عميقاً في البحث عن مأساته. في قصيدة «ليل شهرزاد»، نجد صورة القمر منقوشة داخل روح الشاعر وذكرياته بإبرة أحلام الصبا الضائعة. «القمر بكلّ اللغات يورث الجنون/... / إلا قمرُ بغداد يهيّج الغلمة كذلك/ وتحيض منه النساءُ والأرانب». يستنبط هذا المعتقد العراقي حول تأثير القمر، يصوِّر لنا ليل بغداد، بعذاب عميق اللذة والتصوّر... «ما من ليلٍ يتداخل فيه الموتُ والجنس كليل بغداد/ وفي صدر المرأة العراقية / شمس وقمر ونجوم»، يكتب.
الشاعر والمترجم العراقي الذي نقل إلى العربيّة «عوليس» جايمس جويس، يستلهم في إحدى قصائده شخصية البطل الأسطوري الإغريقي، ويسقطها على المنفيّ أو المغترب العراقي. ها هو عوليس العائد إلى موطنه بعد غياب: «هكذا تصوّرتَ المدينة/ بالطبول وسعف النخيل ستستقبلك/ بكل نوافذها وصباياها ستستقبلك/.../ تسللْ من الباب الخلفي يا عوليس/ لا يعرفُكَ أحدّ وكلبك يُنكرك / .../ عودة الأموات شؤم حتى لو كانت في حلم».
الديوان تدوين للتاريخ الشفاهي شعرياً. إنّه تدوين لسيرة شاعر يشبه إلى حدّ بعيد أبناء جلدته. شاعر لم يخرج من أحلام الصبا حتى وهو في السبعين، فالتاريخ الشفاهي كتاب التعساء، تاريخ الأحلام الضائعة والتأوهات المتكسرة...