في كتابه «إيديولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية» (دار الساقي)، يدرس الباحث المصري سامح محمد إسماعيل السياقات التاريخية التي جعلت من كتلتين متناقضتين، تلتقيان على التفرد بالسلطة وقمع المعارضة
ريتا فرج
التفرد بالسلطة، والحاكم الإله، وقمع المعارضة، وشمولية الدولة، وإلغاء الفردية، والإحالة إلى النص المقدّس، والعنف السياسي... هذه العدّة الاصطلاحية مثّلت، في نظر سامح محمد إسماعيل، الأوجه المشتركة بين الإسلام السياسي والشيوعية. يقدم الباحث المصري، في كتابه «إيديولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية» (دار الساقي)، مادةً تبدو مكوّناتها، للوهلة الأولى، شديدة التعارض في ما بينها، لجهة المقارنة بين كتلتين يفصل بينهما بُعد زمني ومنظومة ثقافية مختلفة، في رؤيتها إلى الله والوجود والإنسان. غير أن الإشكالية التي يناقشها الباحث المصري، تتمحور حول السياقات التاريخية التي بلورت العلاقات بين الإيديولوجيا السلطوية العنفية والشرائح المجتمعية عند كلا الأنموذجين المدروسين.
يستهل الكاتب أطروحته برصد الملامح الأولى لبداية الدعوة المحمدية. ما إن سلك الرسول ـــــ في بدايات رسالته في مكة ـــــ نهجاً لاعنفياً، حتى بدأت في يثرب الملامح الجديدة التي آذنت بالنشوء التدريجي للدولة، على وقع المواجهة الحقيقية التي توَّجته قائداً سياسياً بالتوازي مع نشر الإسلام التوحيدي والأكبري، بالفتوحات حيناً، وبالكلمة الطيبة حيناً آخر. هكذا، خرج المسلمون الأوائل عن تخوم الجزيرة العربية، أي عن مجالهم الجغرافي، وأسسوا لعلاقة ترابطية بين الدين والدولة، ظلّ الجدل بشأنها قائماً حتى اللحظة، وتحديداً بعدما نفى الشيخ علي عبد الرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم» (1925) مفهوم الدولة في الإسلام.
يحاول إسماعيل التأكيد أنّ الإيديولوجيا السياسية رافقت الإسلام منذ نشأته، وبلغت ذروتها مع الصدامات المتلاحقة بين الهاشميين والأمويين، فأخرجت عليّاً من السلطة، ورسَّخت توريث الخلافة في العهدين الأموي والعباسي، «فأصبح الحاكم خليفة الله، لا خليفة الرسول» بغية إضفاء القداسة عليه تجنّباً للمعارضة... إلى أن كرّست مفهوم ولي العهد بدعوى مخافة الفتنة.
سيف الإيديولوجيا بين الشيوعية والإسلام السياسي
يحدّد الكاتب خمسة عناصر قامت عليها سلطة الأمويين: التفويض الإلهي، والسلطة المطلقة للحاكم، والعنصرية، والتوريث، وصُورية البيعة. وتحت الشعار الذي أطلقه عبد الملك بن مروان لاحقاً «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلّا وضربت عنقه»، دخل خلفاء بني أمية في مسارات من العنف لدعم سلطتهم، فوظّفوا النص المقدس لتثبيت شرعيتهم المفقودة. ومع العباسيين، تابعت الإيديولوجيا السياسية إكمال عدّتها، فكانوا أوّل من أسّس لفكرة العائلة المقدسة بانتسابهم إلى النبي. ومعهم، ظهر الفقه الإسلامي والفقهاء وعلماء الحديث، والإشكالية التي يمكن اكتناهها من طيّات الكتاب، أي تعاقب الخلافات على إيقاع العنف.
ولعل المصادر الإسلامية عبّرت عن ذلك بوضوح، وأوردت روايات تاريخية تشير إلى العلاقة الوظيفية بين نشوء الدولة والعنف. يستعيد المؤلّف صورة سليمان بن علي، والي العباسيين في البصرة، معلناً وهو يتناول الطعام على بساط فُرش فوق جثث الأمويين: «ما أكلت طعاماً أشهى من ذلك».
تحت عنوان «الطابع الاجتماعي للإيديولوجيا وخصائصها في العصرين الأموي والعباسي» يفنّد الكاتب مميزاتها القائمة على: الشمولية، والطابع العاطفي، والطابع الرمزي، والطابع الجبري، وتغييب العقل، والصراع الاجتماعي، وتهدف جميعها إلى دعم السلطة المتأسّسة على الاستبداد وإقصاء الآخر وقمع المعارضة.
ويرى الكاتب أن الإيديولوجيا السياسية اتخذت مع الأمويين والعباسيين طابعاً عنفياً، بهدف تدشين السلطة المطلقة للحاكم. ولعل ما عبّر عنه معاوية حين قال: «نحن الزمان فمن رفعناه ارتفع، ومن وضعناه وُضع» يوجز بلهجة استبدادية مأزق الخلافات، المفتقدة مركزيتها، بفعل تنقّل الدولة بين الشام وبغداد والأندلس والباب العالي. ووفقاً للسياق الجدلي المرتبط بغياب مركزية الدولة في الإسلام التاريخي، نجد أنفسنا نتساءل لماذا خرجت الدولة من الجزيرة العربية ولم تعد إليها؟
على الجبهة الماركسية، يعرض الكاتب الإطار النظري لتبلور الإيديولوجيا الشيوعية التي وضع كارل ماركس ـــــ صاحب «رأس المال» أو كما يفضّل بعضهم تسميته «إنجيل الشيوعية» ـــــ أُسسها الاشتراكية، القائمة على أنقاض المجتمع الرأسمالي. وما إن رسّخت الثورة البولشفية قواعدها عام 1917، حتى بدأ لينين بتطويعها لتثبيت سلطة الحاكم الإله. هكذا، خنق الحريات وكبّل الجماعات المعارضة باسم الحزب الواحد الذي ارتكب جيشه الأحمر مجازر في حق المعارضة، لم تقل ضراوتها مع وريثه ستالين.
يُقيم المؤلف مقارنة بين الإسلام السياسي والشيوعية، متّخذاً من المنهج التاريخي المقارن آلية لبرهنة فرضياته. ويخلص إلى أن الكتلتين قامتا على ركائز مشتركة عمادها التفرّد بالسلطة، وسطوة الحاكم الإله، وقمع المعارضة، وتكفير الخصوم أو اتهامهم بالعمالة للإمبريالية، والمناداة بالدولة العالمية، ونبذ المبدأ القومي، وعدم الاعتراف بالفردية... «فكأن سعد بن جبير والحلاج وغيلان الدمشقي يقفون على المِقصلة نفسها التي وقف عليها كاوتسكي وتروتسكي وغيرهما من ضحايا القهر بسيف الإيديولوجيا». هل السلطة السياسية كما قال العالم الفرنسي موريس دوفرجيه تهدف إلى توهيم العامة؟ الجواب يتراءى لسامح محمد إسماعيل، من خلال رصده لما يراه تعبيراً عن مسار الأنظمة القمعية.