في عمله الروائي الثالث، يخترق الروائي السعودي عالم مدينة الرمال والأبراج. «ليلة واحدة في دبي» (دار الساقي)، تحكي قصّة عمارات تنبت في الليل، وأفراد تضيع أسماؤهم بين الحقيقة والخيال
حسين السكّاف
بعدما طاف بنا الأندلس في روايته الثانية «سلّام» (2009)، يأخذنا هاني نقشبندي في جولة سياحية إلى دبي «المدينة التي لا تنتظر أحداً». في روايته الجديدة «ليلة واحدة في دبي» (دار الساقي)، يبدو الروائي السعودي كمن أراد كتابة سيناريو لمسلسل تلفزيونيّ. الوصف دقيق إلى درجة أنك تشم رائحة شعر الفتاة المستيقظة توّاً من نومها... الفتاة الوافدة من دولة عربية تعيش في دبي منذ أربع سنوات. في الصباح الذي يفتتح عليه نقشبندي سرده، لم يوقظها ضوء الشمس كما في كل يوم. بل تكتشف البطلة أن عمارة خضراء كبيرة قد بنيت قبالة البناء الذي تسكن فيه. «منذ البارحة فقط، نبتت عمارة بجوارها ترتفع إلى السماء، أصبحت مئة طبقة وما زالت تشق طريقها للأعلى. لقد حجبت ضوء الشمس عن حجرة نومها. العمارة في طبقاتها السفلى لبست ألواحاً زجاجية خضراء، فبدت كشجرة ضخمة، أو مسخاً أخضر اللون».
ثنائيّة الحكيم والمريد تخترق واقعيّة السرد
كأنّ المسخ أصبح صنواً لمدينة. يتحوّل وصف لحظة الاستيقاظ إلى رمز لهذه الفكرة، رغم أنّ الواقعيّة تطغى على مجمل السرد. في خضمّ هذا الابتعاد عن الرمزيّة، يختار الراوي الاستعانة بالعلاقة الأزلية بين الشيخ والمريد، فيحوّل حارس بناية البطلة، الهندي أفتاب، إلى شيخ أو حكيم للفتاة التائهة. هكذا، يبرر الحكيم بناء العمارة الخضراء داخل ذهن الفتاة على أنه مجرد خيال. أمّا الفتاة فآمنت بشيخها حتى صارت تردد داخلها: «إن كانت دبي صاخبة وسريعة، فإن الهرولة باتجاه رجل حكيم تبدو الشيء الصائب الوحيد الذي يمكن القيام به». لكنّها تكتشف لاحقاً أن شيخها الهندي هو أيضاً مجرد خيال كما هي البناية الخضراء التي ظهرت في يوم الرواية الأول. «كان أفتاب يجلس على كرسيه الخشبي يحمل مذياعه قرب رأسه وعلى كتفيه بطانية صغيرة. لم ينتبه إلى من تقف بالقرب منه تتأمله في صمت. وعلى نحو غريب دهمها إحساس بأن الرجل الذي يجلس أمامها كأنه خيال، هو خيال بالفعل. إنه مثل العمارة الخضراء التي قال عنها ذات يوم إنّها أفكارنا التي تتطور».
يأخذنا نقشبندي في متاهة روايته. وإذا بنا نتذكّر أنّ ثنائيّة الحكيم والخيال ليست بجديدة على عوالمه. في رواية «سلّام»، قرأنا عن الحكيم ابن برجان الذي دلَّ بطل الرواية على سلّام، الشخصية التي تسكن الخيال أيضاً. وفي «ليلة واحدة في دبي»، نلتقي أفتاب الذي يقنع بطلة الرواية بأفكاره حتى باتت «أكثر قناعة بأن حواراتها معه في بهو بنايتها، بمثابة ضوء فنار يدلّ سفينتها التائهة إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه». لكنّ المقارنة بين الروايتين إجحاف للأولى. كانت «سلّام» أكثر دقة وتشويقاً، والأهم أنّها كانت أكثر إقناعاً... أخذنا نقشبندي فيها إلى الأندلس التاريخ، وقصر الحمراء الرمز الذي بات حلماً حقيقياً يراود كل من يبحث في تاريخه المشوش عن نقطة مضيئة. هذه الأجواء الرخيمة، تختلف تماماً عند الحديث عن مدينة إشكالية حديثة مثل دبي. لكنّ نقشبندي يبدو متعاطفاً مع مدينة الرمال والأبراج: «العراقة الحقيقية للمدن لا تكمن في الأحجار، ولا في الأزقة القديمة التي تتلوى في العالم كله بالطريقة ذاتها، بل تكمن في الإنسان ذاته... إن العراقة التي تفتقدها دبي هي تهمة لا مبرر لها، إذ حيثُ وجد الإنسان وجدت ثقافة ضاربة في القدم، سواء أكان في دبي المدينة الحديثة أم في لندن المدينة القديمة». وبالعودة إلى العمارة التي نبتت في ليلة واحدة، فإنّ الحدث الجلل جعل بطلة الرواية تنسى اسمها... هكذا راحت تدور باحثة عن اسمها لفترة استغرقت ربع زمن الرواية تقريباً. نظرة بسيطة على بطاقة الهوية أو لوحة الباب أو إجازة السوق كانت كافية لتتذكر اسمها، لكنّها لم تلجأ إلى أي من هذه الحلول. هكذا، تبدو شخصيّة خارج سياق الزمن، وخارج منجزات الألفيّة الثالثة. هل المقصود أنّ دبي مدينة تمسخ الإنسان وتجرده من إنسانيته وهويته؟ تجيبنا بطلة الرواية بعدما تسترد اسمها: «نحن لا نحب هذه المدينة، بل نحبّ المال الذي نعتقد أنّه يرشح مع رطوبة الصيف ويسقط من السماء مع أمطار الشتاء...» ثم تضيف: «لا أحد يريد أن يكون وحيداً في هذا العالم الاسمنتي».
يكشف نقشبندي الذي عاش طويلاً في دبي تناقضات المدينة... كأنّ السرد كلّه تنويع على ما جاء في المقدّمة: «دبي هي نيويورك، وهي دلهي. هي باريس، وهي القاهرة. هي الرياض وبيروت. دبي هي أنا، وهي أنت. دبي هي كما تريد أن تراها، كما تريد أن تراها».