من دروس «بيروت 39» الرباط ــ ياسين عدنان
هل كان مهرجان «بيروت 39» مجرد تظاهرة ثقافية كتلك التي تكتظ بها ساحتنا العربية؟ هل يمكن اختزاله في الفعاليات التي أقيمت على مدى أربعة أيام هنا وهناك؟ الأكيد أن المهرجان كان أكثر من ذلك. ورث الأدباء العرب الـ 39 المشاركون وضعاً اعتبارياً ضعيفاً في الدول العربية. هم أبناء مشهد ثقافي لا يعترف للأدباء بفضل ولا يشغل باله بأحلامهم وأوهامهم. بعدما سقطت المشاجب الإيديولوجية التي علّق عليها أدباء الأجيال السابقة معاطفهم الأدبية، بدأ الأدب ينفصل عن جمهور السياسة الذي كان يعتبر المجال الأدبي واجهةً من واجهات النضال. ورغم أن خطابات السياسيين لم تزدَدْ إلّا ضحالة وإسفافاً، فالجمهور لا يبدي مع الأسف أيّ تبرّم منها. لكنه بالمقابل لا يُخفي ضيقه من «استيهامات» الشعراء و«ثرثرة» الروائيّين. الجمهور الجديد لا يبدو مستعداً للتضامن مع الأدب لا عبر القراءة ولا عبر ارتياد مجالس الأدباء. طبعاً يسافر أدباؤنا الجدد إلى منتديات الغرب. هناك يكتشفون جمهوراً لا يتيحه لهم عالمنا العربي. أفراد يعشقون الأدب ويحضرون اللقاءات من دون أن يكونوا كتّاباً فاشلين بالضرورة.
أمّا هنا، فلا أحد يحتاج إلى الأدب. لهذا بالضبط، صارت الأسفار حديث المجالس في ساحاتنا الأدبية العربية. ببساطة لأنها تتيح لهم فرصة أن يُحتضنوا كمبدعين. ثم لأنهم، فقط في تظاهرات الغرب، تصير لألقابهم الأدبية، التي يُتنابز بها هنا كيفما اتّفق في غياب الجمهور، دلالة ومعنى.
«بيروت 39» لم تقدم حلاً لهذه المعضلة. هي أكثر تعقيداً من أن تحسمها تظاهرة واحدة. لكنها على الأقل فتحتنا على آليات جديدة للتعامل مع سؤال الجمهور. وعوض أن نواصل الانكفاء على ذواتنا والإقامة في خصومتنا الأدبية المزمنة مع هذا الجمهور العاقّ غير المتضامن، تقترح علينا «بيروت 39» أسلوباً جديداً في التحرك. لماذا لا يُداهم الأدباء المدينة؟ لماذا لا يكتسحونها بأصواتهم وصخبهم وصراخهم إذا اقتضت الحال؟ هكذا توزّعنا في بيروت على امتداد أربعة أيام في مدارس المدينة وجامعاتها، ومسارحها وحاناتها، بل توغّل الأدباء الـ 39 ليجتاحوا «كازينو لبنان» والـ Down town، والـ City Mall. هل كانت الحصيلة في مستوى التوقّعات؟ لست متأكّداً. بعض الأدباء لم يتواصلوا بالحرارة المطلوبة مع الطلاب. آخرون أزعجتهم لامبالاة الصبايا في بعض المقاهي. مع ذلك، كان هناك من اهتمّ وتفاعل. هي بدايةٌ إذاً تحتاج إلى دعم. لكنها تحتاج إلى قناعة أولاً. يجب أن نقتنع بأن المدينة ليست مراقد مرصوصة في عمارات ولا شوارع مكتظة ولا «عجقة سير». المدينة فضاء للعيش المشترك ومجال للاستمتاع

صيغة جديدة نصالح بها جمهورنا مع الشعر والأدب

الجماعي بالحياة. وعلى كل مدينة مهما صغُرَ شأنها أن تبلور أسلوباً خاصاً بها في فن العيش. والأدب والفن أساسيان لبلورة هذا الأسلوب وإعطاء المدينة تلك الأنفاس التي بدونها تتقلّص المساحات وتضيق الأرصفة ويتجمد السقف فوق رؤوس ساكنيه.
في أمسية ساحة النجمة الختامية، توالى الأدباء الـ 39 على المنصة أمام جمهور الـ Samedi Soir. شباب وصبايا الـ «داون تاون» تحلّقوا حولهم. عابرون. سيّاح من الخليج. فضوليون. أشخاص لم يفهموا شيئاً لكنهم تحلّقوا. لكن الأدباء الشباب تواصلوا جميعاً مع الحضور. كلٌّ قال كلمته. بطريقته. بأسلوبه. بذكاء وحضور بديهة حيناً، وبارتباك يعكس هشاشة الأدباء ورهافتهم أحياناً. لكنهم جميعاً كانوا يتنفّسون هواءً حرّاً في قلب مدينة عرفت دوماً كيف تنحاز للحرية. أمّا مشهد بعض الأدباء العرب وهم يوقّعون لشابات خليجيات نسخاً من «أنطولوجيا بيروت 39» وقناني البيرة في أيديهم، فهذا مشهد لا يحصل إلّا في بيروت.
شكراً لبيروت لأنها علّمتنا أن الوصول إلى الجمهور ممكن كي يظل الأدب أدباً وتبقى المدينة مدينة. ألا يكفي هذا الإنجاز وحده لتكون تظاهرة «بيروت 39» قد نجحت فعلاً؟ أوَلسنا مطالبين اليوم بالتفكير في صيغ جديدة للتنشيط الثقافي نصالح بها جمهور مدننا الحيّ مع الشعر والأدب؟ هذا بالضبط هو درس بيروت. «بيروت 39».