بيار أبي صعب
رجل وامرأة جامدان في الظلام. كل منهما أمام منصّة، محاصر ببقعة ضوء، يتكلّم برتابة أمام الميكروفون، في حضرة الدوق والملك وسائر الرؤساء، معلناً بالعربيّة والإنكليزيّة عن معاهدة سلام، وشروط قيام كيان جديد يضمّ الفئات المتنازعة. يمرّ الوقت بطيئاً في «مسرح مونو» ليلة الخميس، ويتساءل بعض المشاهدين إذا كانوا قد أخطأوا اختيار القاعة، فالمدينة تضجّ بالمواعيد هذه الأيّام. لكنّها يلدا يونس أمامهم على الخشبة، مع غاسبار دولانوي في ضيافة منتدى «أشغال داخليّة». هل اعتنقت (هي الأخرى) مذهب «اللارقص»؟ سيطول الانتظار، ويتخذ المونولوغ المزدوج شكلاً استفزازيّاً. كل ما نسمعه غير منطقي، لكنّه يشبه الواقع بشكل مدهش. نخال أنفسنا في مسرحيّة لأوجين يونيسكو، «الملك يموت» مثلاً. تنصّ الاتفاقات على أن «الأراضي المحتلّة ستتحول إلى أراض غير محتلة، وسينشأ فوقها آلاف الألواح الشمسيّة المكونة من خلايا فوتوفولتيكيّة»... و«جدار العار سيستبدل اسمه ليصبح جدار الافتخار (... وتتمّ) فتفتة الحائط وتعليبه وترقيمه ومن ثم عرضه للبيع على شبكة الـ e-Bay». أغنية عبد الوهاب «بلاش تبوسني» هي نشيد الدولة الوليدة، أما علمُها فرايةُ الاستسلام البيضاء.

الراقصة اللبنانيّة في «أتيتُ»، كوريغرافيا إيزراييل غالفان

فجأةً، وسط مناخ من السكون والضجر، يأتي الرقص العنيف كأنّه خشبة خلاص. كأنه ترجمة، بمفردات الفلامنكو، لعبثيّة المشهد الذي ينضح يأساً. عندما تحلّ يلدا يونس شعرها وتخلع سترتها، وتأخذ وضعيّة الفلامنكا، ستظهر بوضوح بصمات أستاذها، إيزراييل غالفان الذي وقّع كوريغرافيا العمل، وهو بعنوان «أتيتُ». لقد رقصت أخيراً! في خطواتها ما يعطي للموقف أبعاده التراجيديّة، فيما حركات شريكها ترشح سخريةً بفعل المبالغات الكاريكاتوريّة. الأنظار مشدودة أكثر إلى يلدا. خبطة القدم، وانفلاتات الذراعين في الهواء، والجسد المشدود كقوس يقول الغضب والاحتجاج. الكتابة الكوريغرافيّة تفكّك لغة الفلامنكو، فتأتي امتداداً للنصّ الذي ينتمي إلى «مسرح اللامعقول» (تأليف دولانوي). هل يمكننا، ونحن نحيّي المعلّم الإسباني الغائب، وتجلّي راقصته اللبنانيّة التي تفرض هنا حضورها المميّز وهويّتها الخاصة، أن نتحدّث عن «فلامنكو اللامعقول»؟